(العَقَلُ) فِي تعابيرِنَا العامِّيَّةِ هُوَ المَرْءُ كُلُّهُ.. بقلبِهِ وعقلِهِ.. بمشاعرِهِ وأحاسيسِهِ، بعاطفتِهِ وذائقتِهِ، بآمَالِهِ وآلامِهِ، وإنمَا كُنِّيَ عنهُ بالعقلِ من بابِ التَّعبيرِ عنِ الكُلِّ بالجُزْءِ، واُخْتِيرَ العقلُ من بينِ بقيَّةِ الحَوَاسِّ لأنَّهُ مَنَاطُ التَّفكيرِ والتَّدبيرِ، وَمَرْكَزُ التَّخطيطِ، واتخاذِ القَرَارَاتِ والمسؤوَلُ عنها..
كما أنَّه يَتَحَمَّلُ نَتَائِجَ أَخطائِهِ، وَوِزْرَ سُوءِ تدبيرِهِ وتقرِيرِهِ، كما أنَّه يتحمَّلُ تبَعًا لمسؤولياتِهِ العِظَامِ الجِسَامِ أخطاءَ سَائِرِ أعضَاءِ الجسدِ لا سِيَّمَا العَينِ المَارِقَةِ النَّاشِزِ، المُتَمِرِّدَة أبدًا على سُلطَةِ العَقلِ، المُوقِعَةِ صَاحِبَهَا – بعقلِهِ وقلبِهِ – فِي مَهَاوِي الهَوَى، في هَاوِيَةِ الحُبِّ، وَفِي غَيَابَاتِ العِشْقِ العَمِيقِ الغَرِيقِ ..
وهذا العقلُ قد تَعَوَّدَ الفشلَ والخَيبَاتِ، وأدمنَ النَّكباتِ والإِخْفَاقاتِ.
(اقعدوا في العافية) تعبيرٌ شعبيٌّ يجري على ألسنةِ النَّاسِ في ليبيا، من أهلِ البَادِيَةِ بخاصَّةٍ.. يقالُ عندَ الافتراقِ، مُوَادَعَةً آمِلةُ مغموسَةً فِي التَّفَاؤُلِ، إذ هُوَ دعوةٌ مُبَارَكَةٌ بِالصِّحَّةِ والعافيَةِ منَ المُغَادِرِ لِلَمُغادَرِينَ.. فيجيبونَهُ (عاطك العاَفية) أي وَلَكَ مِثْلُهَا، من بابِ رَدِّ التَّحيَّةِ بِمِثلِهَا أو بأحسنِ منها.
إنهم يدعونَ لبعضِهِم بِالصِّحَّةِ وَالعافيَةِ، بالسَّلامَةِ الدَّائمَةِ تَفَاؤلًا، وَالصِّحَّةُ هِيَ أعظمُ كنزٍ يُقتنى.
لكنَّ الغنَّاي/ الشَّاعِرَ المُتْرَعَةُ أَعْمَاقُهُ بِالأَسَى، المَرْصُوصَةُ بِالفَشَلِ والإخفاقِ، المرصوصَةُ بالعذابِ، المُكتظَّةُ جوانحُهُ بالانكسارِ، يُعَبِّرُ بِهَا عن خيباتِهِ المُتكرِّرَةِ في أَحَبَّتِهِ، وسقوطِهِ في تجارِبِ العشقِ، وَمَضَامِيرِ الهَوَى، ويصرخُ بها – ضمنًا – تألُّمًا منٍ استمرَارِ مُعَانَقَتِهِ للفَشَلِ، بهجرِ الأَحبَّةَ لَهُ، ورحيلِهِم عنُهُ، مُسْلِمِينَ قَلبَهُ للعذَاباتِ والصَّبابَاتِ، والجِرَاحَاتِ، وروحَهُ للأسى المَريرِ، وعقلَهُ للتَّفكيرِ الأَكُولِ القَتُولِ؛ فيصطرخُ ناشجًا ناحبًا :
واخذ عليه العقل .. قول اقعدوا في العافية ..
في دواخلِها صرخةٌ، وفي ظاهرَةٌ طمأنةٌ لَهُ بتكرارِ ذكرِ الفشلِ على مسامعِ قلبِهِ الجريحِ.. عقلِهِ ذي الفشلِ المستمرِّ..
(اقعدوا في العافية)؛ إِنَّهُ هنا يقولُهَا لِلا أَحدٍ، يُطْلِقُهَا رَصَاصَةً على قلبِهِ، على عقلهِ مُدْمِنِ الإخفاقِ، وعلى وضعِهِ العَاطفيِّ الذي لا يستقيمُ، وَوَاقعِهِ العسيرِ المَريرِ، إِنَّهُ يسخرُ بها من أحزانِهِ، من خيبَاتَهِ وسَقَطَاتِهِ، من جَفَاءِ أَحِبَّتِهِ المُتَوَاصِلِ لَهَ؛ إذ لا عافيَةَ في الهِجْرَانِ، ولا صِحَّةَ معَ الفراقِ، وَلا سَلامَةَ فِي البِعَادِ لَكِنَّهُ العَقلُ الموجوعُ، المفرُوعُ، المفزوعُ يُفرغُ بعضَ أحزانِهِ، يَسْخَرُ من أكداسِ الهُمُومِ الَّتي تعشِّشُ فيهِ، الَّتِي تَتَعَنْكَبُ في دَوَاخِلِهِ.. يُذَكِّرُهُ بكثرَةِ المُفارقينِ، وهَولِ المُفَارَقَةِ، بِالغِيَابِ الفَاحِشِ، بالهَجْرِ المُوحِشِ، بِإدمَانِ هذا التَّجَافي المُمْتدِّ بِلا انتهاءٍ، بِالتَّعوُّدِ القَصْريّ على الهزيمَةِ بالبِعَادِ، والخُسْرَانِ بِالجَفَاءِ، والإِخْفَاقِ بِالفِرَاقِ، فهوَ يُوسِّع وَاقِعَهُ تقريعًا، وقلبَهُ شماتَةً وسخريَّةً رافعًا أَسَاهُ بِالأَنِينِ المُبينِ:
(واخذ عليه العقل .. قول اقعدوا في العافية).
#المعاني:
واخذ عليه: مُتَعَوِدٌ عليهِ.
قول: أي عبارةِ…..
الغنَّاوة مأثورةٌ لا يُعرفُ قائلُهَا.
بالنبضات نحسب في الثواني.. بالآهات نحسب في النفسِ
وبالخيبات نحسب في الأماني .. وهيَّا اتقول امتى تعود بسّْ..!؟
نفس القصَّة . . امتعِّب قلب عندك فيه حصَّة
زارع فيه م الخيبات غصَّة..
Discussion about this post