خبز أمّي
في الزّمان البعيد، حيث كانت القرية الصّغيرة الّتي نشأت فيها، تضاءلت الأضواء وتبدّدت الضّوضاء، كان هنالك شيء واحد لا يتغيّر، شيء يظلّ في الذّاكرة مهما طالت الأيام أو تراكمت اللحظات: خبز أمّي. هو أكثر من مجرّد طعام. كان هو الأمل، والعزاء، والطّاقة الّتي تمدّنا بها الحياة في كلّ صباح، ومنه كانت تبدأ أيّامنا.
كلّما دخلت إلى المطبخ، كانت رائحة الخبز تملأ المكان، وكأنّها تحمل في طيّاتها دفقات من الحبّ الصّادق والعمل الدّؤوب. كانت يدا أمّي المرهقتين تصنعان العجينة في هدوء، وقلبها يحمل كلّ حبّ العالم الّذي يمكن أن يصنعه الخبز. كانت أمّي تعلّمنا في كلّ لحظة أنّ الحبّ لا يحتاج إلى كلمات كثيرة؛ يكفي أن يكون هناك فعلٌ يعكس المشاعر، وحين كانت تشكّل الأرغفة، كان كلّ رغيفٍ يحمل رسالة صامتة تقول: “أنا هنا، لأجلكم، من أجلكم.”
كان الخبز ليس مجرّد غذاء، بل كان لغةً نتحدّث بها دون أن نعلم. كانت أمّي تضعه على المائدة بابتسامة، وتنتظر منّا أن نأخذ أوّل قضمة، وكأنّها ترى في وجوهنا ما يعبّر عن رضاها. لم تكن بحاجة إلى أن تقول شيئًا، فقد كانت تلك اللحظة أغلى من كلّ الكلمات.
مرّتِ الأيّام، وتغيّرت الظّروف، وكبرت أنا وأخوتي، وانتقلنا إلى مدن أخرى بحثًا عن حياة جديدة. لكن في كل مكان زرناه، ظلّ طعم خبز أمّي حاضرًا في قلوبنا. لم يكن هناك شيءٌ يعوّض تلك اللحظات البسيطة الّتي كنّا نعيشها في منزلنا الصّغير، حينما كنّا نجتمع حول المائدة، وكلّ واحد منّا يغمس يده في الرّغيف الدّافئ، وكأنّنا نأخذ من حبّ أمّي شيئًا لا يتبدّد.
كبرتُ وأنا أعلم أنّ الحياة لا تعطي دائمًا ما نريد، وأنّ العالم أحيانًا يخذلنا، ولكنّني في أعماقي كنت أدرك أن هناك شيئًا لا يمكن أن يخذلني: حبّ أمّي. كان حبّها يتجسّد في كلّ رغيف من الخبز الّذي صنعته، وكان قوتنا جميعًا ينبع من تلك اللحظات الّتي لا تُنسى. كانت تقف خلفنا دائمًا، بعينين مليئتين بالأمل، وبيدين لا تعرفان الكلل.
ثم جاء يومٌ اضطررنا فيه للعودة إلى منزل الطّفولة، حيث الجدران الّتي تحمل عبق الذّكريات. دخلت إلى المطبخ ووجدت نفسي في مواجهة مع ما كان، وكأنّ الزّمن قد توقّف. الجدران نفسها، لكنّ الفراغ كان يملأ المكان. كانت أمّي قد غادرت هذا العالم، لكنّ آثارها ما زالت تملأ المكان.
قمت بفتح خزانة المطبخ، ووجدت هناك طحينًا وكأسًا من الماء. كنت أحتاج فقط إلى يديها لتعليمنا كيف نعيش، وكيف نصنع من البسيط شيئًا عظيمًا. قرّرت أن أصنع الخبز، لكنّني علمت أنّ الخبز ليس فقط في الدّقيق والماء، بل في الجهد والحبّ الّذي يضفيه الشّخص الّذي يصنعه.
في تلك اللحظة، أدركت أنّه لم يكن الخبز هو الّذي يمنح الحياة، بل كان الحبّ الّذي يوضع في كلّ رغيف. هو الحبّ الّذي كان يبعث من يد أمي، وهو الّذي استمر معنا رغم الزّمن. وعندما بدأ الخبز يتشكّل في يدي، تذكّرت كلمات أمّي: “الحياة تحتاج إلى الصّبر، كما يحتاج العجين إلى وقت لينضج.”
فقد أدركت أنّ خبز أمّي هو أكثر من طعام، إنّه رمز للأمان، وللرغبة في العطاء دون انتظار. إنّه الشّيء الّذي يربط الماضي بالحاضر، ويعلّمنا أنّ الحبّ الحقيقي لا يموت، بل يبقى في تفاصيل صغيرة نكتشفها عندما نحتاج إليها.
وفي كلّ مرّة أحتفظ فيها برغيف خبزٍ في يدي، أتذكّر أنّ أمّي كانت دائمًا تقول: “الرّغيف هو الحياة، وفيه كلّ ما يحتاجه الإنسان.” قد لا نكون قادرين على إعادتها، ولكنّنا يمكن أن نعيد إحياء روحها من خلال تلك اللحظات الّتي طالما شاركتنا فيها، ومع كلّ قضمة من الخبز، نعيشها مرّة أخرى.
د. محمد عبد العزيز
السودان
Discussion about this post