(رأسٌ وهامةٌ ويدان.. لخِرقةٍ تُدعى يُوسف زيدان)*
هُوّ كاتبٌ غامضٌ جدّا. فلا هوّ بالطّيّب ولا هوّ بالشّرّير. ولا هوّ بالفحل ولا هوّ بالمتّهم في عِرضه ورجولته بشكل واضح. ولا هوّ سُخنٌ, ولا هوّ باردٌ. ولا هوّ رخوٌ ومائعٌ, ولا هوّ صلبٌ ومُتكلّسٌ. ولا هوّ مُبعثرٌ ومُنتشرٌ ولا هوّ متجمّعٌ ومُتلملمٌ. ومن الآخر, هوّ مُجرّد خرقة تافهة وكائنٌ لا جنسَ واضح لقلمهِ ولا لملامحهِ.
ولهذا السّبب, ولأنّه لغزٌ يصعبُ فهمه, ومن طبيعة المصريّ, مهما كان, بداية من الفلاّح البسيط وصولا إلى أكبر كتّابهم وعلمائهم, أنّه لا يتوغّلُ في مناطقٍ غامضةٍ لا يعرفُ كيف يخرجُ منها. فهو يفضّل أن يشتم أعلَى رُموز السّلطة, وفي الطّريق العامّ, على أن يشتم خِرقة بشريّة ملفوفة في مِعطفٍ داكنٍ مُستوردٍ. هذه هيّ طبيعة المصريّ, فهو يضلّ في البداية يقلبّ الشّيء, ويجسّه بحذرٍ حتّى يتأكد من طبيعته, وحين يتأكد أنّه عقرب ميتة أو خنفسة متضخّمة أو حتى علبة ثقاب فارغة, سيّان, فهو, وحينها فقط يكتفي بأن يشوطها بقدمهِ مُطمئن البال وغير مُبالٍ.
ومن الطبيعيّ أن ينفروا منه. فلا هوّ يأكل من فولهم وطعميتهم وكوارعهم وفتّتهم وعصائدهم وصندويتشاتهم ولا من بانييه دجاجهم, ولا هوّ يجلس على الرّصيف وطاولات مقهى البستان والمقاهي المجاورة والأتلييه مثلهم, ولا هوّ يشرب بيبسيكولاتهم ولا سيفيناباتهم ولا فانتاتهم ولا حتى عصير خروبهم ومنقوع سُوبياهم, ولا يترشّف من شايهم المنعنع ولا من قهوتهم المضبوطة, ولا هوّ يقرقع دخان شيشتهم ويخرجه من نافوخه مثلهم, ولا هوّ يخالطهم ولا هوّ يمارس معهم فعل النميمة المُلهمة في المقاهي الشعبيّة, ولا هوّ يشتم وزرائهم ولا هوّ يشرشح مدرائهم ولا هوّ يركب ميتروهم ولا ميكروباصاتهم ولا هو ينهر شحاذينهم ولا هوّ يبشبش على قططهم ولا هوّ يبصق متنخّما تحت أشجارهم ولا هوّ يحاسب ندلائهم ولا هوّ يضرط معهم ولا هوّ يحلف بالطلاق مثلهم ولا هوّ يتبول في مبولتهم, ولا هوّ يبصبص على عوانسهم ولا هوّ يغازل مُزّاتهم ولا هوّ يفعل أي شيء, أيّ دين أمّ شيء يدلّ على أنه شيء ما…ليتوضّح جنسه. فيُعرف, ويحددون بالتالي بشكل واضح كيف يتعاملون معه.
فهو بالنسبة لكتاب مصر, مجرّد شيء غامض وغريب ولزج ومتعال لا لون ولا رئحة ولا طعم له, تماما كفقاعة صابون ينفخها طفل شقيّ وتتطاير فوق رؤوسهم فلا يبالون بها, ان فرقعت أو تساقطت أو طارت أبعد…فهي لا تعنيهم أصلا.. وحتى من سافر بمحض الصدفة المدبرّة معه, من الكتاب المصريين وقابله في أوروبا وخلال أحد المعارض, فهم لا يرونه أبدا, وان رأوه, أشاح برأسه وانطلق خببا صوب وفد أوروبي مُبتعدا عنهم. فهو تافه, ومُتعال ومُتطاوس بشكل كاريكاتوري مقزّز ويثير الشفقة في آن.
والجميع يتعامل معه, كأنه غير موجود, رغم أن ثمة كثير من الإثباتات المادية والوقائع التي تثبت وجوده فعلا, كمنتحل لصفة كاتب, ومصري فوق ذلك. وهذه أمور, علينا أن لا نشكّك فيها وقتيا, لنقص الأدلّة لدينا في إثبات عدم وجوده.
ومسألة الوجود وعدم الوجود, مسألة أعمق من أن تكون شكسبيرية عند كتاب مصر وعند المصريين عموما, وهي مسألة في غاية الأهميّة, فأنا مثلا, حين قررت العيش في مصر، ونزلت بمطار القاهرة الدولي لأول مرة، قبل خمسة عشر سنة، لأعيش بها لأكثر من عشر سنوات, تعتبر من أصعب الفترات في تاريخ مصر (من سنة 2009 حتّى سنة 2019 ) وكان ذلك بعد قضاء قرابة الرّبع قرن بين صقيع ألمانيا, وقبلها صحاري الثلج بموسكو), كنت تراني منذ الأسبوع الأول فيها، أجوب أسواق الجيزة كلها مُغازلا الشمس وبائعات النعناع العجائز والصبايا والبهائم البيض وأواني الفول والطعمية على السواء, كنت مستعدا أن أدفع مائة جنيه مصري (وكانت أيامها مبلغا كبيرا), لصبيّ يدلّني على المكان الذي كان يجلس فيه أمل دنقل مثلا, أو نجيب سرور أو يوسف إدريس, أو قريني الأقرب يحيى الطاهر عبدالله، بل حتى المبولة التي كانوا يتبوّلون فيها, والكرسيّ المقشّر المِعفّن الذي كانوا يجلسون عليه, كلّ تفصيلة, وكلّ أثر كان له مكانة مُعتّقة عندي, وأظنّه عند أي كاتب حقيقي يعيش أو يزور القاهرة, لأنّ تاريخ مصر, ليس ذلك الذي تقشره كزعانف سمكة من كتب التاريخ والأدب فقط, لا ودين ربيّ..تاريخ مصر الحقيقي, الذي لا يُصدّر, ولا يُباع ولا يُشترى …روح مصر التي هي تجليات الله. والله لم يتجل في ارض غيرها ..روحها التي لا تُرى إلا بعين عاشق. وهيّ مصر..وهي النّور الملهم الأبدي, وهي الخلود. وروح مصر ليست بَغيّة, لتهب نفسها لكلّ عابر سبيل, حتى ولو كان من أبنائها..لا وربي, رُوح مصر روح أبيّة ملهمة, ومهرها غال. والمنذورون للبقاء وحدهم يفهمون ويقدرون ذلك.
د.(كمال العيّادي الكينغ)
– من كتابي الجديد: خمسون بُورتريه وبورتريه
Discussion about this post