هاتفني الصّديق الشّاذلي العرفاوي، Chedly Arfaoui، قبل منتصف النّهار بساعة. سألني وهو يُجيب نفسه، كمّن يعيد المشهد للمرّة العاشرة:
– عندك برنامج اليوم يا كينغ؟!
أجبتهُ، نفس الإجابة التي كرّرتها ليلة الأمس:
– عندي تسجيل وتصوير وحوار وموعد فلقاء…و كلّها بعد منتصف النّهار، بساعتين….
كنتُ قد برمجتُ للقائه بالمقهى تحت الفندق. أسلّمه الكتب التي إتّفقنا عليها، ونتبادل ضحكتين وجملتين وربّما بيتين من الشّعر ونميمتين وقد نطيل فنشرب قهوتين وسيجارتين ونتابع مشية صبيّتين ونتواعد على أن لا نتباعد، ثمّ يدخل كلّ منّا غابته، ويبدأ في الجري وراء الأرانب والثّعالب وبنات آوى والإختباء من القُراد و برغوث الشّجر والمطر…
وتمضى الحياة مثل برق أو شهاب، وبيننا زرّ على كلّ حالٍ.
ولكن هذا لم يحدث….
وصل قبل الموعد بخمسة دقائق. وكنت قد تأخرتُ عن الموعد خمسة وخمسين سنة وعشرة أشهر وستة عشر يومًا، قضيتها أبحث عن خيط رحلة أجدادي وأنتظر خبرًا أو علامة من أحفادي. وحين وقف بباب الفندق، عملاقًا، فاردًا كلتا يديهِ لاحتضاني، كنت أنفض يدي ممّا علق بها من تراب قبر أمّي وقد إنتهيتُ للتّوّ من دفنها. وتبييض مُسودّة قصيد في رثائها. للإحتياط. ولم أكن أبكي، فقد ماتت منذ أكثر من عشرين سنة، بما يعدّون..
إحتضنني بقوّة من لا يقف بين الضّفّتين.
وأعاد سُؤاله. وأظنّها عادة فيه، إكتسبها من كثرة إعادة المشاهد خلال التّصوير، فقد لاحظتُ فورًا أنّه خلق ليكون غولا حقيقيّا بل ومن من طبقة الغيلان، على خشبة مسرح يرجّ القاعة ويهتك السّتارة وليس دفّة باب يُصفق للمرَة الألف وراء عدسة الكاميرا وإعادة المشهد:
– عندك إرتباطات اليوم يا كينغ؟!
أجبته بشكل آليّ، كترنيمة ألمانيّة موّقّعة:
– عندي تسجيل وتصوير وحوار وموعد فلقاء…و كلّها بعد منتصف النّهار، بساعتين….
– منذ متى لم تذهب إلى نهج دونتون عدد 2 ؟؟….سألني.
– ليزاد ؟؟….(المعهد العالي للفن المسرحي)
– إيه يا كينغ. مبنى ليزاد، سابقا…منذ متى لم تزره ؟؟
– منذ سنة 1988، آخر عهدي به منذ 34 سنة يا شاذلي.
– إذن هيّا بنا…..
– ولكن…
– لا تقلق… سنعود بعد نصف ساعة فقط.
النّصف ساعة دامت أربع ساعات ونصف السّاعة…
رنّ الهاتف عشرات المرّات….
طوابير …وأزيز…
وضجيج… ومسامير…
وألواح… وجسور…
وعتبات…. و مواعيد تتساقط كأوراق الخريف
دون حسرة أو تأنيب ضمير
ومضى الوقت مثل خُطاف كالوميض…وبين منتصف النّهار والخامسة،
خمس ساعات. وأربعة وثلاثين سنة
وبنت ولدت وكبرت في غير أرض أجدادها البدو
وخمس زوجات.
وجسد كالغزال، زوّر الخائن الغين فيه بهاء،
فأضناه الهُزال.
وعُكّاز. ورفيّن من الكتب.
ومجد معصور من زهرة العمر، قبل التوديع.
وقلم شرس وقلب وديع….
كانت أحد أروع ساعات حياتي، التي كنت فيها نفسي، دون هاتف جوّال،
ولا نديمًا بوّال،
ولا قريبًا يشكو الحال.
وانتبهتُ وقد أظلمت تقريبًا، بأنّني لم أغب يومًا واحدًا عن تونس. وأنّني لم أخطُ خطوة واحدة أبعد من نهج دونتون عدد 2، حيث مبنى المعهد العالي للفنّ المسرحيّ. ولم ولن يعنيني إطلاقًا أنّ المبنى قد تغيّر، وأنّ العمارة البيضاء المعوجَة، ذات الطوابق الأربعة، عادت الآن لمركز لتكوين إختصاصات متوسّطة أخرى في التّمريض والتّبنيج….
وأنّ كلّ القاعات طُليتْ بلون أصفر …
وأنّها نفس القاعات التي جرى فيها عرق ألمع نجوم البلاد الان وهم يتقمّصون السنجاب والسُلحفاة والعقرب والحصان والقرد والغزال والتمساح بحصّصة التّقمّص عند (سي رضا بُوقديدة).
ليتقاتلوا برذاذ البُصاق عند (سي جون آرفون)
وليغوصوا في أعمق أعماق وهاد قرارة ذواتهم (عند سي فتحي العكّاري)
وينخرطوا في موجة من البُكاء عند (سي منصف التريكي) ويلوون أحزمتهم ويتلمّسون رؤوسهم بأصابع أقدامهم في حصّة الرّقص عند (مدام آنا ماريّا السّلامي)….
لم ولن يعنيني ذلك إطلاقا….
كم شربنا بالحانة القديمة الملاصقة لمبنى المعهد العالي للفن المسرحي، بنهج دونتون عدد 2 ؟؟!!
عشرة ؟؟….. عشرين ؟؟؟…..
هذا أمر غير مهمّ على الإطلاق. فالدّموع والبول سوائل بدائيّة تفرز حِينَ تُمطر الرُّوح مشاعرًا مُبهمة….
ولكن: والله … والله…. هذه البلل في عيني الآن، بسبب دُخان السّجائر يا صديقي الشّاذلي العرفاوي، أيّها الطّفل النّقيّ الذي لم ولن يكبر أبدًا….
الدّموع الحقيقيّة التي ذرفتها، بالكاد، كانت تكفي لترطّب الجفاف الذي تراكم على حوافِ قبر أمّي….
وسأصنع منه عجبًا،
فشكرًا….
شكرًا من أعمق أعماق القلب، يا صديق العزيز. أيّها الطّفل الضّخم البديع النّقيّ…
شكرّا أنَك قُدتني اليوم إلى تلك العمارة البيضاء المُعوجّة، بنهج دونتون، عدد 2، الملاصقة لمحطّة الوقود، عند ناصيّة شارع محمّد الخامس، حيث قبري. وقبر أجدادي، وقبر أحفادي. وقبر أمّي…..
د.(كمال العيّادي الكينغ)- من كتابي الجديد: خمسون بُورتريه وبورتريه
Discussion about this post