بقلم .. ماهر اللطيف
إثر آذان الفجر مباشرة، خرج عبد الهادي من منزله مسرعا كعادته، وامتطى سيارة التاكسي الرابضة في مربض السيارات وهو يبسمل و يقرأ ما تيسر له من القرآن الكريم ويسبح الله كثيرا ويتوكل عليه.
ثم، انتظر المحرك حتى يتهيأ وتستعد السيارة للعمل المضني الذي تعودت عليه يوميا، وتفقد العجلات والماء والهواء وغيرها من الحركات التي باتت روتينية بالنسبة له كل صباح بكل عناية وحرفية وانتباه .
وكان من حين لآخر ينظر إلى جانب الطريق المحاذي لمنزله أين يقف شيخ طويل القامة (لم يره من قبل هنا) ، جميل الوجه، أبيض البشرة والشعر واللحية الكثيفة، يلبس قميصا أبيضا طويلا ناصعا، يبدو أنه ينتظر سيارة “تاكسي” لتوصله إلى جامع المدينة – كما كان عبد الهادي يعتقد -، لكن لا أثر لأية سيارة مارة من هناك منذ مدة للأسف.
لذلك ،قرر أن يوصله بنفسه إلى الجامع ولا يحصل منه على أجرة عكس بقية الأيام – بما أن السائقين ومعظم التجار يلهثون باكرا على الحصول على أي مبلغ مالي يفتتحون به يومهم المهني – لأنه يريد أن يفتتح يومه بحسنة دائمة قد يحتاجها يوم الحساب بدلا عن المال الذي سيذهب هباء منثورا في أقرب فرصة.
فتوقف أمامه وأشار له بالركوب، ألقى عليه التحية وابتسم في وجهه ابتسامة عريضة، وواصل طريقه في اتجاه الجامع، والشيخ يسبح بصوت عال، يكبر، يذكر الله كثيرا دون أن ينبس بكلمة أخرى أو يولي السائق أي اهتمام، ويتمتم بصوت منخفض أحيانا…
وما إن عبرا مئات الأمتار حتى اعترض سبيلهما كهل أنيق الملبس والمظهر، متوسط القامة، حليق الذقن والشوارب، فأشار على السيارة بالتوقف، لكن عبد الهادي اعتذر بيده وواصل طريقه دون تردد أو تفكير .
لكن الشيخ لم يعجبه هذا التصرف، وطلب من السائق التقهقر قليلا وحمل الراكب إلى مقصده خاصة وأن المكان مقفر من كل وسائل النقل حاليا ، فاستحسن السائق الفكرة ورحب بها، بما أنه سيشغل العداد ويربح من هذه السفرة أجرين في أجر واحد: أجر حمل الشيخ إلى الجامع دون مقابل وأجرة الكهل مهما كانت المسافة والزمن الذي تقتضيه.
وما إن صعد الكهل حتى أطلق التحية وطلب من السائق إيصاله إلى المطار، فابتسم عبد الهادي ونظر من المرآة الوسطى التي تظهر له وجه الحريف الراكب في الكراسي الخلفية، وقال له بهدوء ورقة حتى لا يعطل الشيخ عن تسبيحه وذكر الله :
– نوصل الشيخ أولا إلى الجامع ثم ننطلق أين تريد إن شاء الله أخي العزيز
– (متعجبا وساخرا بصوت شبه عال) عن أي شيخ تتحدث يا هذا؟ (مستعيذا من الشيطان الرجيم) هل أنت مريض أم تتمارض في هذا الوقت ؟
– (مقاطعا وضاحكا) هذا الشيخ الجليل الذي يجلس بجانبي، ألا ترى هذا البهاء والجمال، هذه التقوى والورع والذكر المتواصل، و….
– (مقاطعا بشدة وغاضبا) كف عن هذا الهراء. توقف وانزلني، يبدو أنك في حالة صحية أو نفسية غير عادية. فلا أحد يجلس بجانبك البتة كما يخيل إليك…
ورغم اصراره على وجود الشيخ في السيارة ، إلا أن الراكب نفى ذلك بشدة وألح على كثيرا، وأراد النزول في الحال حفاظا على نفسه وعلى صحته وحياته.
ومازالا كذلك، حتى اقترب الشيخ من عبد الهادي وقال له بصوته الجهوري الثابت الرصين هامسا في أذنه ” لا تتعب نفسك، فلن يراني سواك الآن أيها العبد. أنا ملك الموت جئت لأقبض روحك بعد دقائق معدودة (فارتبك السائق وتبلل عرقا، شاح ريقه واصفر وجهه، شلت قدماه وكل جسده ولم يعد يع ما يقول أو يفعل خاصة بعد منعه من الاتصال بأهله وذويه قصد توديعهم وإبلاغهم توصياته الأخيرة )، ومع هذا، فإني سأمنحك فرصة أخيرة قبل ذلك، توقف أمام الجامع واسرع بالوضوء والصلاة والدعاء لله بكل خشوع وانتباه، اطلب المغفرة والرحمة والعفو، اسرع ولا تتردد إن كنت تريد النجاة والفوز بالجنان … ”
ومازال” ملك الموت “يخاطبه حتى استحضر عبد الهادي فجأة وبسرعة مذهلة شريط حياته من الولادة إلى هذه الثانية، فتذكر طفولته، بلوغه، شبابه، كهولته، شيبه وكل المراحل التي مر بها، حلوها ومرها….
كما استحضر نجاحه وفشله، حسناته وسيئاته، زواجه وأسرته التي كونها، ديونه، وكل صغيرة وكبيرة، والدموع تنهمر من عينيه مدرارا وفرائصه ترتعد وترتجف خوفا وهلعا(وصوت تكبير الشيخ يعلو شيئا فشيئا باستمرار ويغزو جسده المستسلم المرتخي)….
وماهي إلا لحظات حتى توقفت السيارة أمام الجامع، فنزل منها السائق بسرعة كبرى، ولم يستمع إلى كلام الراكب ولا تساؤلاته، توضأ ثم ولج الجامع أين صلى جماعة مع المصلين أول وآخر صلاة له على وجه الأرض بكل خشوع وورع وتقوى وانتباه لم يعهده في نفسه البتة قبل هذه اللحظات.
ثم خرج متثاقلا من الجامع، وقد أقفر المكان من كل رواده وزواره، وهو يذكر الله دون توقف، يدعوه ليرحمه ويغفر له ويغير سيئاته إلى حسنات، ويتجاوز عن ذنوبه….
وكانت صدمته كبيرة، وفاجعته عظيمة حين اتجه صوب سيارته، فلم يجد لها أثرا، ولم يجد الشيخ ولا الراكب، فقد وقع ضحية عصابة مختصة في سرقة السيارات بطرق وأساليب مبتكرة وحديثة لا تخطر حتى يبال الشيطان.
فصاح، استنجد بالناس،صرخ “إنها مورد رزقي الوحيد وعائل عائلتي” ، جرى، توسل، ذهب في كل الاتجاهات ،اتصل بجميع السلط الهياكل المختصة دون جدوى، فقد وقع في فخ ذئاب آدمية لا ترحم….
Discussion about this post