وها أنا أعود، مرةً أخرى إلى حيثُ لم يَكُن يُفتَرَض بي العَودة، إلى حيثُ أبكيني كما بَكَتني في تِلكَ اللَّيالي الفَراشات السّاكِنات في صَدري، مهزومةً للمرّة الأولى، مهزومةً دونَما مَعركة، مهزومة دونَ أن أخوضَ صِراعًا سِوى مع ذاتي، أيُمكِنُكَ تخيّل حَجم الأَسف حينَ يُهزَم المَرء مِن نَفسه لِأجلِ نَفسه؟! أتُدرِك كيفَ لِكائِنٍ مُنهَك أن يُنتَهَك شُعوره الذي لَطالما أغدَقهُ على شيءٍ ما؟!
ليتَ ما كانَ لَم يَكُن، أَوَليتَ الأبواب التي شرّعتها لَم تُوجد، فَيا لِكثرة ما عَبرَ منّي النّاس ودَخلت الأشياء والأيّام لكنّك لَم تَقتَرِب، لِسوء حظّي لَم أَرَكَ تَعبُر مِن خِلالي إلّا في المرّات التي كُنتَ تَبحثُ فيها عن مَنفذ، لا عن شيءٍ آخر.
أُدرِكُ الآن كم هو مُؤلِم أن توثّق هزيمَتك، أن توقّع عقدًا مع صَفحاتِ أيّامك يُذكّرك كُل لَحظة بسقوطك الذي تذوّقتهُ من خِلال مُحاربتك لِمداخلات العَقِل التي لامَتكَ كثيًرا لكنّك ولِشدّة ما أنتَ مغلوبٌ على قَلبك لَم تَنصت، لَم تَصغي لِتحذير ومُناجاة ذاتك الأخرى.
أعرِفُ الآن الطّعم الحَقيقي لِهزيمة المَرء من نِفسه، الهزيمة المؤجلة التي لاحَت في الأُفق كثيرًا وما أبصَرها القَلب.
لَم يَسبق لي أن كانَ لَدي هذا الثّقل من اللّاشعور، أتعرِف كيفَ يُمكِن للمرء من شدّة ما أهلَكهُ شعوره أن لا يَشعر بِه؟! أن لا يَحس بِه لكنّه رَغم ذلك يَجري بِداخله كما تجري الأمطار من أعلى قمّةٍ حيثُ النَّهر؟!
كانَ لدي الكَثير لأقوله، والكثير لأفعله، إنّما أعادَتني الصّفعات إلى ذاتِ النقطة التي بدأتُ مِنها لكن بِروحٍ مُنطَفِئة، بِمُقلَتين أشبه بِضوئَي إنارة ضَعيفَتين، بِجسدٍ أشبه بِورقة خَريف عَبَرت من فوقِها كُل أقدام أهلِ الحيّ، بِقلبٍ باكٍ وصدرٍ مترهّلٍ من هَولِ الأَسى.
خَمَدت بِداخِلي تِلكَ القوّة الأنثويّة الناعِمة، وذابَت آخر شمعة لطالما احتَفظتُ بِها لِأُنير طَريقي كي أعبُر مِنهُ آمنة، انطَفأَت آخر قَناديلي وانكَسرَ جَناحا الفَراشة بِداخلي وعدتُ أشكو.. أشكو لَوعَتي وهَزيمتي وفُقدانِي لِنفسي في حربٍ خضتُها ضِد ذاتي وأنا على يقينٍ منذُ اندِلاع المعركة أنّني سأتّشح بالهزيمة ذاتَ لحظة لا مَحالة، وأجثو على ركبتيّ خائِبًا، ولا مُلام إلّايَ وشُعوري الذي كانَ أكبُر حجمًا منّي، وحلمي الذي لَم يَكُ على مَقاسي أبدًا، وأملي الذي كانَ أعلى سَقفًا وأكثرُ علوًّا.
Discussion about this post