عُمَرُ العَبْدَاللاتِ: سِيمْفُونِيَةُ الرُّوحِ الَّتِي هَزَّتْ وَجْدَانَ الأُمَّةِ…
بقلم : سلمى صوفاناتي
– حِينَ وُلِدَ الصَّوْتُ… غَنَّى الزَّمَنُ:
فِي صَبَاحٍ مِنْ ذَهَبٍ، تَلَفَّحَ فِيهِ الضَّوْءُ بِرِدَاءِ تِشْرِينَ، وَتَدَلَّتْ أَشِعَّةُ الشَّمْسِ كَأَوْتَارِ قِيثَارَةٍ فَوْقَ جِبَالِ السَّلْطِ، وُلِدَ صَبِيٌّ كَأَنَّ فِي صَوْتِهِ مُوَّالًا قَادِمًا مِنْ رَحِمِ الأَرْضِ. كَانَ ذَلِكَ عَامَ 1972، حِينَ قَرَّرَتِ السَّمَاءُ أَنْ تُهْدِيَ الأُرْدُنَّ وَالشَّرْقَ العَرَبِيَّ قَلْبًا يُغَنِّي، وَحَنْجَرَةً تَنْطِقُ بِالحُلْمِ وَالهَوِيَّةِ، وَاسْمُ تِلْكَ الهِدِيَّةِ: عُمَرُ العَبْدَاللاتِ.
لَمْ يَكُنْ صُرَاخُهُ الأَوَّلُ إِلَّا تَمْهِيدًا لِعَاصِفَةٍ مِنَ الأَلْحَانِ، وَلَا بُكَاؤُهُ إِلَّا مُطْلَعَ نَشِيدٍ سَيُطْرِبُ لَهُ الزَّمَنُ.
البِدَايَاتُ… حَيْثُ تَنْمُو الجُذُورُ فِي التُّرْبَةِ الطَّيِّبَةِ ..
فِي حَضْنِ السَّلْطِ، حَيْثُ يُولَدُ الإِلْهَامُ مِنَ الحِجَارَةِ.
نَشَأَ عُمَرُ فِي مَدِينَةٍ تُشْبِهُ القَصَائِدَ المُعَلَّقَةَ عَلَى جُدْرَانِ التَّارِيخِ. السَّلْطُ، بِحِجَارَتِهَا الصَّفْرَاءِ وَأَزِقَّتِهَا الضَّيِّقَةِ، كَانَتْ أَوَّلَ مُعَلِّمَةٍ لَهُ. هُنَاكَ، سَمِعَ إِيقَاعَ الحَيَاةِ فِي خَفَقَانِ النَّسِيمِ، وَعَزْفَ الطَّبِيعَةِ فِي قَرْعِ الأَقْدَامِ عَلَى الدُّرُوبِ الحَجَرِيَّةِ. كَانَ يَقُولُ:
“المُوسِيقَى كَانَتْ تَخْتَبِئُ فِي كُلِّ رُكْنٍ… فِي نِدَاءِ البَائِعِينَ، فِي ضَحَكَاتِ الأُمَّهَاتِ، فِي صَوْتِ النَّايِ القَادِمِ مِنْ بَعِيدٍ.”
صَرْخَةُ المَوْهَبَةِ الأُولَى:
فِي التَّاسِعَةِ، وَقَفَ طِفْلًا فَوْقَ مِنَصَّةِ مَدْرَسَتِهِ، يُرَدِّدُ “وَطَنِي الأَكْبَرُ”، فَإِذَا بِالزَّمَنِ يَتَوَقَّفُ، وَالأَنْفَاسِ تُحْبَسُ، وَالقُلُوبِ تَذُوبُ. لَحْظَةٌ خَاطِفَةٌ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ مُفْتَرَقَ عُمُرٍ بِأَكْمَلِهِ.
“عِنْدَهَا أَدْرَكْتُ أَنَّ الغِنَاءَ لَيْسَ هِوَايَةً… بَلْ قَدَرٌ.”
حِينَ التَقَى قَلْبُهُ بِالعُودِ:
اللِّقَاءُ الَّذِي غَيَّرَ مَجْرَى النَّبْضِ
فِي الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ، لَمَحَ العُودَ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ، فَلَمْ يَكُنْ مَجَرَّدَ آلَةٍ… بَلْ تَوْأَمَ الرُّوحِ. “حِينَ لَمَسْتُ أَوْتَارَهُ، كَأَنَّ شَيْئًا مِنْ دَاخِلِي نَهَضَ مِنْ نَوْمٍ طَوِيلٍ. عَزَفْتُ أَوَّلَ نَغْمَةٍ، وَشَعَرْتُ أَنَّنِي عُدْتُ إِلَى مَكَانِي الطَّبِيعِيِّ… إِلَى ذَاتِي.”
“هَاشِمِي هَاشِمِي”… المُوَّالُ الَّذِي رَفَعَ رَايَةَ المَجْدِ:
عَامَ 1988، خَرَجَتْ أُولَى صَيْحَاتِهِ الفَنِّيَّةِ إِلَى العَلَنِ. كَانَتْ “هَاشِمِي هَاشِمِي” أَكْثَرَ مِنْ أُغْنِيَةٍ، كَانَتْ وَطَنًا يُغَنَّى، وَرَايَةً تُرَفْرِفُ بِصَوْتٍ رَخِيمٍ يُعَانِقُ سَمَاءَ الأُرْدُنِّ.
“غَنَّيْتُهَا بِكُلِّ مَا فِيَّ مِنْ عِشْقٍ، فَحَمَلَتْنِي عَلَى أَجْنِحَتِهَا إِلَى القُلُوبِ.”
حِينَ اعْتَلَى القِمَّةَ وَبَقِيَ مُتَوَاضِعًا كَالنَّدَى:
مِنْ “يَا سَعْدُ” إِلَى “خُدِّ الرُّمَّانِ”… بَقَايَا مِنَ الوَجْدِ
أَغَانِيهِ لَيْسَتْ مَجَرَّدَ أَلْحَانٍ، بَلْ فُسَيْفِسَاءُ مِنَ الرُّوحِ:
– فِي الوَطَنِيَّةِ، كَانَ صَوْتُ النَّسْرِ فِي الأَعَالِي.
– فِي العَاطِفَةِ، كَانَ وَشْوَشَاتِ العُشَّاقِ بَيْنَ الغَمَامِ.
– فِي التُّرَاثِ، كَانَ سُبْحَةَ جَدٍّ تَتَلأْلَأُ فِي يَدَيْهِ.
كُلُّ لَحْنٍ لَهُ كَانَ مِرْآةً لِوِجْدَانِ أُمَّةٍ، وَسِجِلًّا لِلحَنِينِ الَّذِي لَا يَمُوتُ.
سَفِيرُ الرُّوحِ الأُرْدُنِّيَّةِ:
فِي كُلِّ مَسْرَحٍ، فِي كُلِّ مَهْرَجَانٍ، كَانَ عُمَرُ يَحْمِلُ وَطَنَهُ فِي حَنْجَرَتِهِ، وَيَرْفَعُ عَلَمَ الأُرْدُنِّ فَوْقَ نُوتَةٍ مُوسِيقِيَّةٍ.
“لَمْ أَكُنْ أُمَثِّلُ نَفْسِي، بَلْ أُؤَدِّي صَلَاةً وَطَنِيَّةً عَلَى مَسَامِعِ الدُّنْيَا.”
الإِنْسَانُ الَّذِي سَكَنَ وَرَاءَ الضَّوْءِ:
الفَنَّانُ المُتَوَاضِعُ… وَالإِنْسَانُ المُتَفَانِي
فِي قَلْبِهِ مَكَانٌ وَاسِعٌ لِلنَّاسِ، لِلْوَجَعِ، لِلأَمَلِ:
– مَدَّ يَدَهُ إِلَى المَرْضَى كَأَنَّهَا شَجَرَةُ ظِلٍّ.
– سَانَدَ المُحْتَاجِينَ بِصَمْتِ النُّبَلَاءِ.
– كَانَ جُزْءًا مِنْ كُلِّ نَبْضٍ وَطَنِيٍّ، فِي أَفْرَاحِ الأُمَّةِ وَأَتْرَاحِهَا.
العَائِلَةُ… حَيْثُ يُولَدُ السَّلَامُ:
بَيْنَ أَبْنَائِهِ الخَمْسَةِ، وَبَيْنَ ذِرَاعَيْ زَوْجَتَيْهِ، يَجِدُ عُمَرُ مَلَاذَهُ الأَبَدِيَّ:
“هُمْ مُوسِيقَايَ حِينَ يَصْمُتُ العَالَمُ… وَهُمْ لَحْنُ الحَيَاةِ الحَقِيقِيُّ.”
حِينَ انْحَنَتِ الجَوَائِزُ لِمَقَامِهِ العَالِي:
وِسَامُ الحُسَيْنِ… وَنَبْضُ الأُرْدُنِّيِينَ
عَامَ 2007، تَقَلَّدَ أَعْلَى وِسَامٍ وَطَنِيٍّ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ.
“هَذَا الوِسَامُ أُعَلِّقُهُ عَلَى صَدْرِ كُلِّ مَنْ آمَنَ بِي، مِنْ أَوَّلِ هَمْسَةٍ حَتَّى آخِرِ تَصْفِيقٍ.”
تَكْرِيمَاتُ العَرَبِ وَالعَالَمِ:
مِنْ كُلِّ أَرْضٍ وَطِئَهَا صَوْتُهُ، عَادَ بِجَائِزَةٍ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَقُولُ:
“الأَلْقَابُ زِينَةٌ مُؤَقَّتَةٌ… وَلَكِنَّ حُبَّ النَّاسِ تَاجٌ لَا يَزُولُ.”
الخَاتِمَةُ: وَمَا زَالَ البَحْرُ يُغَنِّي:
لَمْ يَتَوَقَّفْ، وَلَنْ يَتَوَقَّفَ. فَالفَنَّانُ الَّذِي أَنْجَبَتْهُ السَّلْطُ مَا زَالَ يَحْمِلُ العُودَ كَجُنْدِيٍّ فِي مَعْرَكَةِ الجَمَالِ. يَقُولُ بِابْتِسَامَةِ المُؤْمِنِ بِفَنِّهِ:
“لَمْ أَبْدَأْ بَعْدُ… فَمَا زَالَ فِيَّ حُلْمٌ لَمْ يُغَنَّ بَعْدُ.”
عُمَرُ العَبْدَاللاتِ، لَيْسَ مَجَرَّدَ فَنَّانٍ…
إِنَّهُ ذَاكِرَةٌ حَيَّةٌ، وَصَدَى وَطَنٍ، وَنَشِيدُ أُمَّةٍ لَا تَنْسَى.
سَتَبْقَى حَنْجَرَتُهُ مَنَارَةً لِلْوِجْدَانِ، وَصَوْتُهُ خَرِيطَةً لِلْعَاطِفَةِ، وَأَغَانِيهِ تَقْطُرُ دِفْئًا وَكَرَامَةً، كَأَنَّهَا صَلاة محبة لا تنقطع.






































