أيام في طوكيو
——————————
كان من حسن الحظ أن دليلي ( المرافق الرسمي ) في زيارتي لليابان أستاذ جامعي ( بروفيسور) دارس للتاريخ في جامعة هارفارد في الولايات المتحدة ، وبدت ثقافته موسوعية شاملة ، مما جعل أحاديثنا عميقة ومتنوعة ، قال لي : أقترح عليك أن تزور معبد الإله ( ميجي ) قلت : من ميجي هذا ؟ قال : ميجي إمبراطور ياباني هو الذي خلق اليابان الحديثة ، كنت أعرف أن عند اليابانيين العديد من الديانات ، لكني عرفت أن ميجي إنسان حكم اليابان بين عامي 1868 و1912 م وأنه أسس لنهضة اليابان ، والتف الشعب حوله ، حتى إن الحكومة بنت له معبداً ، لتخليد ذكراه وهو يعتبر من أكبر معابد الشنتو في اليابان يقع في شيبويا في طوكيو.
فوجئت بأن مرافقي الأكاديمي بدأ يمارس طقساً دينياً مذ دخلنا ساحة المعبد ، حيث بركة ماء مقدسة ، اقترب منها ، فغسل وجهه ، ثم تمضمض ، سألته : ماذا تفعل ؟ قال : أفعل ما تسمونه في دينكم الوضوء قبل الدخول للصلاة ، ولا أكتم القارىء أنني عندما دخلت قاعة صنم ميجي ، والزائرون في حالة وجوم وخشوع أمام التمثال الضخم ، تمتمت في سري ( اللهم لا إله إلا أنت وحدك ، لا شريك لك تحيي وتميت وأنت على كل شيء قدير ) والتفت إلى صاحبي فإذا عيناه تدمعان من شدة الخشوع ، وسبحان الله ، لا يستطيع غالب البشر أن تطمئن قلوبهم دون اعتقاد بقوة خالقة خارقة ، وتذكرت أن من كفروا بالإسلام من قريش ، كانوا يعبدون أصناماً و لكنهم كانوا يقولون( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) ويبدو أن ثقافة هارفادر لم تؤثر على معتقدات مرافقي التقليدية ، وقد مضى بي إلى قاعة أخرى فيها تماثيل ضخمة لزوجة ميجي ولأولاده في ذات الخشوع ، وللإنصاف فإن الرجل قال : إن الإمبراطور ميجي خلق اليابان الحديثة لكنه لم يقل إنه إله خلق الكون .
كان واضحاً أن روح حضارة اليابان القديمة ما تزال حية في قلوب كثير من اليابانيين بما فيها من معتقدات ومقدسات لم تستطع كل التقنيات الحديثة وثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات أن تقلل من شأنها، أو أن تزعزع مكانتها في عقول الناس الذين يخلصون لماضيهم ولما توارثوه من معتقدات.
و أما سر الاختلاف الحضاري الكبير بيننا وبين اليابانيين فلعله يكمن في العزلة التي عاشتها اليابان قروناً خوفاً من انفتاح على العالم يهدد قيمها، وأحسب أن ذلك قد أحدث في الماضي قطيعة معرفية بين حضارتنا وحضارة الشرق الأقصى، ونعلم أن الفتوحات الإسلامية توقفت عند أبواب الصين ولم تصل إلى تلك المناطق البعيدة النائية عن شرقنا العربي، ويبدو أن المسلمين في آسيا لم يقوموا بالتفاعل مع اليابان كما فعلوا مع إندونيسيا وماليزيا وسواهما من بلدان الشرق، لكن المفارقة أن كثيراً من المعتقدات الدينية في اليابان تشبه تلك المعتقدات التي كانت سائدة في بلادنا قبل ظهور الديانات السماوية مع اختلاف تسميات الآلهة، بل إنني فوجئت بوجود تشابه كبير في الأساطير هناك وتلك التي نجدها في الحضارات السومرية والأكادية والبابلية والكنعانية وسواها من حضاراتنا القديمة، حتى إن الكتابة الشجرية التي يكتب بها اليابانيون معروفة في تاريخنا القديم قبل أن تخترع (أوغاريت) الأبجدية التجريدية التي باتت أبجدية العالم عدا بلدان معدودة، ولقد بدت لي رؤية مجتمع اليابان عن قرب معرفة جديدة بقيم تفسر سر نجاح اليابان المعاصرة، وكان أهم ما لفت اهتمامي هو الانضباط الاجتماعي، وقيم التهذيب التي تعبر عنها انحناءة الشكر والاحترام التي يتبادلها الناس فيما بينهم، وتلك الحيوية والإخلاص المتفاني في أداء العمل، وكان حظي طيباً برفقة طاقم سفارتنا السورية في طوكيو، وأخص الأخت رانيا الحاج علي رئيسة بعثتنا الدبلوماسية يومذاك ، وكانت تجيب عن أسئلتي المعرفية، حتى إنني وجدتها دليلة ثقافية تعينني على الغوص إلى أعماق الثقافة اليابانية القديمة حين تحدثني عن المعتقدات اليابانية والمقدسات، ولاسيما حين كنا نزور المعابد وسط زحام من الزائرين الذين يتوضؤون على طريقتهم بالماء المقدس قبل الدخول إلى المعبد الذي تفصله عن العالم المحيط به بوابات ضخمة توحي للزائر أنه بات في حرم مقدس، ولقد زرت معبد بوذا ومعبد شنتو، وكان رفيق رحلتي إلى مدينة ( نيكو ) الصديق الدبلوماسي فراس الرشيدي الذي التحق ببعثتنا الدبلوماسية قبل شهرين فقط من زيارتي ، وقد زرنا معاً معبد ( شوغم ) القريب من جبل سماه مرافقي البروفيسور الياباني (بركانو ماونتنغ) قلت وهل أنتم تسسمونه بركانو؟ قال نعم ، هذه لغتنا، قلت بل هي لغتنا، فكلمة بركان عربية خالصة، ولعلها تسربت إلى اليابانية بفضل تقدم علوم الأرض عند الجيولوجيين المسلمين القدامى من أمثال البيروني ، وحدثته عنه وقلت : لم يكن بوسع أحد في التاريخ القديم والوسيط أن يدرس علم الأرض دون الاستعانة بكتبه.
( وللحديث صلة ) .
الصور
1 _ سحابة تظلل الجبل البركاني فوجي
2- ضريح الإمبراطور ميجي
Discussion about this post