حلّتين نحاس
مرض ابني في ذيل الشهر، أيام التغريق، والعتمة تزاحم النور، حينها سمعت صراخه وأنا أحلب الجاموسة في آخر الدوار، كان صراخًا خافتًا، سمِعه قلبي قبل أن ينسكب في أذنَي.
مربوعة.. أنا ذابلة أنا، منهَكة أيضًا، للتوّ خرجت مِن حُمّى النفاس. جَنبتُ صحفة الحليب عن طريقي، وهرولت مثخنةً بالألم. وقد خَط الدم طريقه نحو كعبي، أنزف.. أنزف، قضمت خطواتي الواسعة، وبالكاد تعلقت بكتف باب غرفة نومي، لم أجد قطنًا، مزقت وسادة بأظافري التي خمّرها التوتر والاستعجال.
هاتفٌ في رأسي “الواد يا رابحة”.. الواد يا بِت”.
سَددت الماسورة، وفي غمضة عين كانت يداي ترتعشان على جبهة طفلي عامر:
“ده بيبُخّ حَمّْ.. الواد هيروح منك يا رابحة.. كان بدري عليك ياخويا”.
رحت أغمغِم بينما أرتدي جلبابي الأسود وطرحتي السوداء، وكذا شبشب الخروج “الموريتان”، “علام.. إنت فين يا علام؟”
أخذتني قدماي نحو النادي خارج البلد، حيث الظلام يلفّني وبرد سموم يغرق فيه الطريق، وصلت الملعب، وبالكاد تعرفت عليه إذ كانوا يلعبون على ضوء القمر.
-علااام..علااام.. الواد تعبان.
انتبه بعد وقت، متثاقلًا خطا نحوي، ونافرًا كما فرسٍ حَرون:
-ايه يا رابحة؟! فيه إيه الواد؟
-تعبان يا خويا، بيرعش ومِزرق وعنده حَمّْ.
-غوري دلوقتي حَمّيه بمَيّه وبُكرا نودّيه العيادة الكبيرة.
-يادي الزهرة على عيشتي.. الواد بيموت يا علام!
-يا وليّه سِدّي بقك.. أنا بالعب على خمسة جنيه بحالها، والفورة لسّه بادئة، ارجعي البيت.. ممعييش فلوس.
قالها علام وانصرفتُ أدعو عليه، يختلط دعائي بدموعٍ حارقة، شعرت بأن ظهري عارٍ، وأنني أهوي فوق ركام الجدار الذي للتوّ قد انهار.
وصلت بيتي وأنا ألهث، وقطنتي تَنز من فرط النزيف، وظهري في فم كلب. مرقتُ مِن أمام جارتي سامية، غرقت في حرجي وأنا أقول لها:
“أم محمد محتاجة خمسة جنيه سلف؟”
قالت سامية البيضاء التي تشوبها حمرة، وشامات كثيرة، ووجه ممتلئ بَض، وصوت حانٍ:
“مِن عنيّا الجوز يا رابحة.. خير يا بِت فيه إيه؟”
-الواد.. الواد بيروح مني يا سامية.
-طب وأبوه فين يا اللي ينكوي؟
-أبوه؟
قلتها ورأسي متوسّدة قفصي الصدري مثقلَة بالخذلان.
-أبوه طلع يوميّة ولسّه مجاش.
-طيّب أنا جايّة معاكي ..انسحبت لتتجهز ,تهز رأسها في استهجان وما أن دفنتها عتمة حجرة النوم حتى سبقتني أقدام خزي وهوان إلى براح الشارع المكتنز كوريد أحدهم ..وبينما أنا في طريق أجهل وجهتي ..تطرق إلى مسامعي قرع إناء تتلقفه درجات سلم حجري – على مايبدو..
وصلت للعيادة الكبيرة سيرًا خالَطته هرولة تشتد مع كل صرخة لطفلي ، حاملةً إياه
فوق رأسي بداخل حَلّتين قررتا مرافقتي لدكان النحاس.
…………..
كريم علي الشريف مصر
Discussion about this post