فاصلةٌ منقوطةٌ؛
في أوجِ نشاطي وارتياحي، تَزيّنتُ بأروعِ الثِّيابِ، تَعطّرتُ، لَبِستً خاتمي ذا الفصِّ الأرجوانيّ القاني ـ كان قد اشتراهُ لي منذُ زمنٍ مَضَى حِينَ أعجبنِي ـ استقلّيتُ سيّارتي الّتي طالما حاربتُ حتّى حصلت عليها؛ فمكانُ عملي بعيدٌ جدًّا عن بيتي، أدرتُ المِذياعَ ـ إذاعةُ القرآنِ الكريمِ تنعشُ صباحي ـ قهوتي بجانبي، أقودُ مبتسمةً، لأوّلِ مرّةٍ أشعرُ بفاصلٍ في حياتي، يومي أصبح هادئًا جميلًا مستقرًّا لأكبرِ حدٍّ، فقد نسيتُ حقًا.
انْجلى الحزنُ من داخلِي، وفتحتُ بابًا على الحياةِ، تجاوزتُ عينيهِ الجريئتينِ اللامعتينِ الجذابتينِ، تجاوزتُ هيئتَهُ الوقورةَ، قامتَهُ الممشوقةَ، وعنفوانَ شبابِه.
تجاوزتُ كلماتِهُ، صوتَهُ، حنانَ قلبِه، ولمسةَ يديه.
تجاوزتُ الحضنَ الدَّافئ، الكلمةَ الّتي تخترقُ القلبَ، ونومتي على ذراعِه بأمانٍ تامٍّ.
عرفتُ بعد سنواتِ الحزنَ العميقَ، والألمَ الدَّفين ـ بعد تخلّيه عنِّي ـ أنَّني قادرةٌ على الحياةِ.
سيفُ تخلّيه عنَّي عَلَّمني أنّ الحياةَ لا تقفُ بوجه أحدٍ، أنّ خيباتِ عمري الّتي قضيتُ انتحبُها في المشفى؛ دواءٌ يقوّي ظهري، وأنّ جروحي الّتي لا يراها أحد؛ ترياقٌ اعادني للحياةِ.
وأنَّ سنواتٍ من الدُّموعِ قادرةٌ على شفاءِ قلبي المهترئ.
أنا الآن ذاهبةٌ إلى عملي وأنا في قمّةِ نشاطي، وأوجِ حرّيّتي؛ رُغمَ أنَّه معي داخلَ عملي أراهُ كلَّ يومٍ؛ إلّا أنّ عقلي لا يبصرهُ؛ هيكلٌ فارغٌ من الكلماتِ لا ترجمةَ له داخلَ عقلي، كتابٌ ليس له غلافٌ قد طُمست أحرفُهُ، ذكرٌ كباقي ملايينِ الذُّكورِ لا أعرفهُ، وفاصلةٌ منقوطةٌ عَبرت بي إلى شاطئِ سعادتي.
الكاتبة الصَّحفية/ د. دعاء محمود
مصر
دعاءقلب
رؤية تحليلية
بقلم/ غمدان المريسي
اقدم إليكم تحليلًا نقديًا أدبيًا متواضعا بقلمي لنصّ الكاتبة دعاء محمود بعنوان “فاصلةٌ منقوطةٌ”:
أولًا: العنوان ودلالته الرمزية
“فاصلةٌ منقوطةٌ” عنوانٌ بليغٌ ومُحمّل برمزية دقيقة، تشير إلى لحظة انقطاعٍ مؤقت لا تعني النهاية، بل بداية جديدة. هذه العلامة تُستخدم نحويًا عندما تنتهي جملة، لكنها لا تغلق المعنى، بل تستأنفه. في السياق النفسي للنص، تعبّر الفاصلة المنقوطة عن مرحلة انتقالية بين الألم والتعافي، بين الانكسار والتجاوز، وهي بذلك تلخّص مضمون النص في رمزٍ لغويّ واحد.
ثانيًا: البنية السردية
النص ينتمي إلى فن الخاطرة أو السرد التأمّلي، ويعتمد على السرد الذاتي بصوت الأنا، ما يمنح القارئ حميمية خاصة وارتباطًا مباشرًا بالمشاعر الموصوفة. يبدأ النص بوصف لحظة يومية (الاستعداد للعمل)، ليتحوّل تدريجيًا إلى استرجاع وجداني وتحليل نفسي عميق لتجربة الحب والفقد.
الافتتاحية موغلة في التفاصيل الحسية (الثياب، العطر، الخاتم، المذياع، القهوة) لترسم ملامح شخصية بدأت تتصالح مع نفسها.
التحوّل السردي يأتي تدريجيًا مع استخدام أفعال الماضي للتجاوز، مرفقًا بتكرار فعل “تجاوزتُ” لترسيخ فكرة التحرر.
الخاتمة تعود إلى الحاضر بقوة، لتؤكد الاستقلال النفسي و”الموت الرمزي” لمن كان سببًا في الألم، في صورة فنية ذكية: “كتابٌ ليس له غلاف”، و”ذكرٌ كباقي ملايين الذكور”.
ثالثًا: اللغة والأسلوب
اللغة: شاعرية، مشبعة بالتشبيهات والصور البلاغية، دون أن تفقد بساطتها أو قدرتها على الوصول.
الإيقاع: تحكمه الجُمل القصيرة نسبيًا، والفواصل التي تقطّع الإحساس دون أن تقطع المعنى (تماشيًا مع عنوان النص).
الصور الفنية: استخدام الاستعارة بكثافة (“سيف تخلّيه”، “ترياق أعادني للحياة”، “كتاب طُمست أحرفه”) يثري النص بمستوى رمزي وتأمّلي.
رابعًا: الرؤية الفكرية والرسالة
النص يُجسّد خطابًا نسويًا داخليًا ناضجًا، لا يُدين الآخر بقدر ما يحتفي بتجاوز الأنا له. الكاتبة لا تطلب شفقة القارئ، بل تشاركه تجربة نضوج، وانتصار على الحزن بطريقة فنية راقية. كما يحمل النص رسالة واضحة: القوة تولد من الخيبة، والألم ليس عائقًا بل دافعٌ للنهوض.
خامسًا: القيمة الأدبية
يمتلك النص قيمة أدبية في قدرته على الدمج بين العمق النفسي والتعبير البلاغي، وهو نموذج قوي لفن الخاطرة الوجدانية الحديثة، التي تتناول التجربة الشخصية بمنظور شمولي يُلهم الآخر.
خاتمة التحليل:
نص “فاصلة منقوطة” مثال على الأدب الذي يُشفى بالكتابة. فيه صوت امرأة تجاوزت الحب الموجِع، وتصالحت مع الألم، لتخرج منه أقوى، أصفى، وأقدر على الحياة. الكاتبة د. دعاء محمود قدّمت عملًا يتّسم بالصدق، والجمال، والنضج التعبيري.
بقلم/
غمدان المريسي
اليمن
Discussion about this post