بين المتعلّم والمفكّر
كيف نصنع العقل المثقّف ؟
الدّكتور عبدالكريم الحلو
كاتب وباحث في الفكر والنّقد المعاصر
في عالمٍ يتسارع فيه تدفّق المعلومات، ويتكاثر فيه حملة الشّهادات والخريجيين العاطلين تظلّ أزمة الفكر قائمة، بل وتزداد حدّة.
لسنا اليوم أمام مشكلة جهلٍ بالمعنى التّقليدي، بل أمام ما يمكن تسميته بـ”الأمّيّة الفكريّة”؛ وهي أميّة تتخفّى تحت أقنعة التّحصيل الأكاديمي، ولكنّها تعجز عن تقديم وعيٍ نقديّ، أو توليد رؤية، أو طرح بدائل جادّة.
المشكلة لا تكمن في ندرة المتعلمين، فالمؤسّسات التَعليميّة تنتج سنويًّا أعدادًا ضخمة من الخرّيجين.
إنّما الإشكال الحقيقي هو في غياب المشروع الفكري، وفي ضعف القدرة على التّحليل، والاستغراق في الاستهلاك المعرفي دون أي مسعى للإنتاج أو التّجاوز.
يبدو أنّ كثيرًا من المتعلّمين اليوم يتعاملون مع المعرفة بوصفها وسيلة اجتماعيّة؛ شهادة تؤمّن وظيفة، أو مكانة، أو لقبًا يُستعرض في المجالس.
ما إن تُحقّق تلك الغاية حتّى ينطفئ السّؤال، وتخمد الرّغبة في الاكتشاف.
إنّهم يتعلّمون ليُثبتوا تعلّمهم،
لا ليمتلكوا أدوات الفهم أو أدوات التّغيير.
ولهذا، ينتشر وصف “قارئ” في بيئتنا للإشارة إلى المثقّف، بينما في العالم المتقدّم يُدعى الباحث باحثًا، لا لكونه يقرأ فحسب، بل لأنّه يسائل، ويشكّك، ويُنتج معرفة.
إنَ تأسيس العقل المفكّر لا يبدأ من تراكم الكتب، بل من القدرة على طرح الأسئلة الصّحيحة.
ولهذا فإنّ القراءة، مهما بلغ اتّساعها، لن تؤتي ثمارها إن لم تكن مشروطة بثلاثة: الشَمول، العمق، والتّخصّص.
فالمفكر لا يكتفي بجزء من الواقع، بل يتجوّل في خرائطه المختلفة؛ يقرأ في الفلسفة كما في الاقتصاد، في التاّريخ كما في الاجتماع، دون أن يخشى من تناقض المدارس، بل يرى في ذلك مدخلًا للفهم الجدلّي المركّب.
لكنّه، في الوقت نفسه، لا يذوب في الموسوعيّة الفارغة؛ بل يحتفظ بميدان خاص يتعمّق فيه، ويجيد أدواته، ويعرف مدارسه.
وإذا كان لا بدّ من تمييزٍ إضافي بين المثقف والمفكّر، فهو أنّ المثقّف يعيد إنتاج ما قرأ،
أمّا المفكّر فينتج ما لم يُقل بعد. المثقّف يشرح، والمفكّر يبتكر. ولهذا، فإنّ الوعي لا يُقاس بكثرة المعلومات، بل بقدرتنا على تحويل هذه المعلومات إلى معرفة، ثمّ إلى وعيٍ تحليلي، ثمّ إلى مشروع.
إنّ من أخطر معوّقات النّضج الفكريّ
ما يمكن تسميته بـ”أكاذيب الصّحبة الثّقافيّة”؛
دوائر تدّعي المعرفة، وتُشغل وقتها بالجدل البيزنطي، أو التّحشيد الإيديولوجي،
لكنّها لا تنتج فكرة واحدة جديدة. ومع مرور الزّمن، يتحوّل هذا الجدل إلى طقوس اجتماعيّة تُلهي عن التّفكير الحقيقي، وتستهلك الطّاقة الذّهنيّة فيما لا جدوى منه.
أضف إلى ذلك، أنّ البعض ينشغل بالأسماء أكثر من انشغاله بالأفكار، فيظلّ أسير رموزٍ بعينها، أو مدارس معيّنة، دون أن يسمح لنفسه بالخروج عن خطّ المرجعيّة.
إنّ التحرّر الفكري لا يعني التّمرّد الأجوف،
بل يعني أن نعيد تموضعنا داخل الحقل الثّقافي؛ أن نقرأ ماركس كما نقرأ ابن خلدون، ونحاور شريعتي كما نراجع أفلاطون، دون أن نصطفّ مسبقًا.
ثمّة سؤال يجب أن يبقى يقظًا في ذهن كلّ من يطمح إلى تجاوز الثّقافة الاستعراضيّة: لماذا أقرأ؟
إن الإجابة عن هذا السّؤال هي الّتي تحدّد إن كنت تسلك طريق المفكر، أم طريق المتعلّم التّقليدي. فالمفكر لا يقرأ للمتعة فقط، ولا للمعرفة المجرّدة، بل يقرأ لأنّ عليه مسؤوليّة: أن يفهم، وأن يقدّم رؤية، وأن يشتبك مع واقعه.
ختامًا،
إنّنا لا نحتاج فقط إلى إعادة إنتاج المتعلّمين،
بل إلى صناعة المفكّرين.
نحتاج إلى عقلٍ عربيّ يعيد امتلاك أدوات النّقد، ويخرج من متاهة الاجترار، ويقدّم مشروعًا فكريًّا حقيقيًّا في مواجهة الزّمن الاستهلاكيّ الطّاحن.
الدكتور عبدالكريم الحلو
Discussion about this post