مكر و دهاء
بقلم: ماهر اللطيف
تجمهر الخرفان والأبقار صبحا في ساحة شاسعة – أمام مقر الأسد – كانت ذات يوم مرعى من أهم مراعي هذه الغابة التي اندثرت وقحلت لعدة أسباب منها الطبيعية كقلة الأمطار وتغير المناخ وصعوبة التربة، ومنها الحيواني ومرده سوء تصرف الحاكم ورعيته وانعدام النظام وغيرها….
اجتمعوا لينتفضوا ويرفضوا حكم الخنازير وتسلطهم وقهرهم لبقية الحيوانات وعبثهم بها من جهة، والنيل منهم بأبشع الطرق من جهة ثانية، وتصفية كل معارض تصفية تدمع العينين لرؤيتها لبشاعتها وقساوتها من جهة ثالثة، بما فيهم التي كانت مرشحة لأن تحكم بعد وهن الملك وتقدمه في السن وعدم قدرته على قيادة الغابة كالنمور والسباع خاصة.
فكانوا يصيحون بأعلى أصواتهم ليسمعوا الملك ويثيروا انتباهه عساه ينقذهم من هذه الكارثة التي حلت بهم بمجرد تعب الأسد، وكانوا يطالبون بإسقاط الخنازير وتنحيتهم قسرا ضمانا لأمنهم واستقرارهم واستمرارهم رغم المخاطر المحيطة بهم من كل صوب واتجاه، فهتفوا “ارحل ارحل يا خنزير فالغابة لها ملك كبير” و “يا أسد يا عظيم خلصنا من الخنزير اللئيم”، ومثلها كثير….
وكانوا كلما تقدم وقت الغضب ازداد عدد المتظاهرين وانخرط فيه جل الفصائل والأنواع كالضباع والحمير والنمل والدود والأرانب والدجاج والأحصنة والكلاب وغيرهم، وزاد تشنجهم وغضبهم وإصرارهم على المضي قدما لتحقيق مآربهم وأهدافهم.
فيما خيرت بعض الحيوانات الأخرى الاجتماع بغية التحاور والتشاور والتخطيط تخطيطا سليما بعيدا عن شعبوية العامة و غوغائيتهم واندفاعهم المبالغ فيه الذي لن يوصلهم إلى شيء غير مزيد حقد الخنزير، وكرهه لهم، وتوعده لهم في مرحلة أولى، قبل التهامهم في مرحلة ثانية بنهم وشغف كبيرين بعد أن يعبث بهم وبأجسادهم التي سينتقم منها شر انتقام.
فافتتح النمر الاجتماع قبل أن يتداول على الكلمة معظم الحضور، فأجمعوا على ضرورة التصدي للخنزير وحكمه، والثورة في وجهه بعد تقنين انتفاضة بقية المحكومين، كما اتفق هؤلاء “الحكماء” على ضرورة ملاقاة الملك – رغم صعوبة الأمر ومحاصرة مقر إقامته من طرف فيالق الخنازير المنتشرة في كل مكان – لإخباره بما خفي عنه عساه يتحرك ويفرض قوته وحكمه على الجميع بما فيهم هؤلاء المستبدين الجدد.
ثم وضعوا خطة احتياطية في صورة فشل الأولى وهي التصدي المباشر في وجه الطاغي و زبانيته ولو كان الثمن حياتهم – وهي على كف عفريت في كل الأحوال كما كانوا يؤمنون دائما – قصد الإطاحة به وعزله عنوة وتعيين النمر مكانه -بعد الاتفاق والإجماع على ذلك – في انتظار تعافي الملك واسترجاع حكمه.
لكنهم اختلفوا في كيفية المواجهة وطرقها وآلياتها، فدعا كبير الحمير إلى الهجوم المباشر وقتل الحاكم دون رأفة ولا شفقة، فيما رأى زعيم الغزلان التفكير في الإيقاع به قبل النيل منه أحسن وسيلة للإطاحة به، ودعا قائد القردة إلى عصيانه عصيانا تاما والتمرد عليه، ونادى رئيس الذئاب إلى استدراجه بكل لطف بعد إيهامه بالطاعة والولاء ثم الانقضاض عليه، فيما نبه ممثل الشمبانزي من خطورة هذه الخطوة ودعا الحضور إلى توخي الحذر قبل الاندفاع والزج بالبقية في أتون مستنقعات الخنازير، وغيرها من الآراء…
ومنها، سألهم الشمبانزي بسخرية بعد تفكير وتمحيص وتحليل داخلي لم يفصح به من قبل منذ بداية هذا التجمع الساخن والصاخب والمليء بالمفارقات والأضداد:
– لماذا سمح الأسد للخنزير بأن يتولى مقاليد الحكم في فترة غيابه، ولم يكلف فهدا من الفهود أو لبؤته بذلك، أو النمر في مرحلة ثانية؟
– (النمر بعد تفكير عميق) لقد استغل هذا “العفن” مرض الملك وحاصر مقر إقامته بالاستعانة بآلاف من أبناء ملته وفرض على المريض توليته وإعلان ذلك علنا حفاظا على حياته وحياة من معه هناك
– (الحمار الوحشي بقوة وتهور) إنه ملك أبله، غبي، غير مسؤول….
فأسكته الشمبانزي ودعا الجميع إلى تذكر محاسن الملك بدل البحث عن مساوئه، تضحياته مكان قسوته والتهامه لعائلاتهم كلما جاع أو جاع أحد أفراد عائلته، دفاعه المستميت عن غابته ومن فيها وقتل كل متسلل لها أو محاول اقتحامها لأي سبب من الأسباب بدل استحضار جبروته وضيمه…..، كما دعاهم إلى النظر بإيجابية إلى الملك رغم مرضه وما تسبب فيه من وهن للبقية وفقدانهم شهية البقاء والاستمرار في ظل حكم هذا “الظالم “، وأكد على ضرورة التفكير في إنجاح الثورة وتحرير الغابة من استبداد الحاكم….
وما إن انتهى الاجتماع -ولم يسفر عن نتيجة واضحة المعالم ولا خريطة طريق سليمة تفرض على الجميع السير بفحواها حتى تحقيق النصر – حتى طلب الذئب منهم إمهاله فترة من الزمن قبل إعادة الاجتماع وتقييم الوضع وتحيينه وتهيئة الخطوات الموالية.
فخرج مسرعا متجها نحو مقر إقامة الخنزير وطلب مقابلته بسرعة لأمر يهمه لا يقبل التأخير أو التجاهل لخطورته، فكان له ما أراد بعد أن خضع إلى تفتيش معمق وأسئلة واستجوابات وتهديدات وغيرها من الأمور المعمول بها في مثل هذه الحالات، فأخبره بانتفاضة المحكومين وغضبهم واستعداده لإسكاتهم ولجمهم والتخلص منهم إن أعطاه الضوء الأخضر لذلك طبعا، ففرح الخنزير ورحب بالفكرة.
ثم أعلمه باجتماع حكماء الحيوانات وقادتهم وعزمهم الانخراط في هذا العصيان المدني وتقنين التحركات لتصبح ثورة عارمة، مما سيجعل الأمر معقدا ولن يستطيع “السيد الخنزير” وقتها فعل أي شيء لفك هذه التحركات وتفكيكها وشلها نهائيا…
وواصل عرضه وتحليله والحاكم يتصبب عرقا ويخر بسرعة ويكاد يستسلم وينهار وقد شحب لون وجهه وارتعدت رجليه وشاح ريقه، وبات يستجدي الذئب حتى يجد له حلا ومخرجا من هذه الورطة وهذا الوضع المزري، فتظاهر “الماكر” بعجزه في مرحلة أولى، قبل أن يقترح عليه الذهاب إلى مجلس الحكماء خلسة معه للتفاوض وإيجاد حل يرضي الجميع، شريطة أن يذهبا وحيدين ليظهرا حسن نيتهما ورغبتهما الفعلية في التحاور والتشاور للمصلحة الجماعية، الشيء الذي قد يزيد من طمأنة المجتمعين وتشجيعهم على الحوار والنقاش والتوصل إلى حل وسطي يخدم مصالح الجميع.
وبعد تفكير ملي، لم يجد الخنزير حلا غير الانصياع لمقترح الذئب – وكان يعرف خداعه ومكره ودهائه، لكنه لم يجد حلا بديلا يمكنه من تجنب مخاطر نوايا هذا الشرير -، فتنكر وأمر أتباعه بعدم اتباعه أو مرافقته، وحراسة المكان جيدا حتى يرجع من مهمته السرية.
وما إن ولجا المجلس، حتى وقع الحاكم في الفخ وابتلع طعم الذئب بسهولة لم يتوقعها أحد -حتى الخنزير نفسه الذي اعتقد أن الصياد سحره وأثر عليه تأثيرا لم يعرف سره بعد -، فانتهت الثورة ولم تبتدئ بعد وأسدل الستار على حقبة سوداء من حياة حيوانات هذه الغابة في انتظار شفاء ملكهم وتعافيه وتوليه أمرهم من جديد بكل اقتدار وحرفية وثبات.
Discussion about this post