بقلم: ماهر اللطيف
كان من المفترض أن تحتفل غدا بعيد زواجها الثلاثين مع بعلها وأبنائها كما جرت العادة، وكان من المفترض أيضا أن يحضر الأصحاب والأحباب والأقارب هذا الحدث الجلل والمهم بالنسبة لهذه العائلة “المثالية” التي اتسمت بالوحدة والتضامن والحب وغيرها من الصفات التي يحلم بها الجميع في مثل هذه الظروف التي نعيشها حاليا.
وكان من الضروري أيضا الاتصال بالناس واستدعائهم وتحديد مكان الحفل – النزل كالعادة – ووقته ككل سنة، والاتفاق مع فرقة موسيقية واقتناء لوازم هذه التظاهرة السنوية وحاجياتها التي باتت عادة عند هذه الأسرة…
إلا أنها لم تقم بشيء ولم تخطط لأي عمل ما، بل إنها رفضت حتى الخوض في هذا الموضوع مع أبنائها وكل من يسأل عن هذا “المهرجان المرتقب”، وتجاهلت هذا التاريخ وهذه المناسبة، وكانت تكتفي بقول ” لم نعد بحاجة لمثل هذا الصنيع والتبذير” بنبرة حزينة وخافتة تخفي في طياتها سرا يُنذِرُ بالخطر الجسيم – كما كان يعتقد مخاطبوها – …
لذلك، قرر الابن البكر – بعد الاتفاق مع أخته – فك طلاسم هذا اللغز ومعرفة سر هذا الانقلاب الكلي و”الثورة الفجئية” التي قادتها أمه في هذا الظرف بالذات، ورأى من المفيد ألا يقصد “القائدة الثائرة ” وهي في حالة هيجان وعصيان ورفض لكل حوار وكلام، فاتفق مع والده على التلاقي في مقهى الحي بعيدا عن “عدسات” الوالدة التي لا تترك كبيرة ولا صغيرة إلاّ تلتقطها وتبدي فيها رأيها وقرارها -حسب الابن -.
فلم يتأخر عن موعده وذهب مسرعا إلى المقهى، وكانت أمه جالسة في ركن منزو في آخر بيت الجلوس تائهة، غائبة عن الوجود، شاردة وسارحة، سابحة في بحر ذكريات تعارفها على زوجها وخطبتهما فيما بعد، فزواجهما وإنجابهما لصغيريهما تباعا وحرصهما على تربيتهما أحسن تربية شعارها الصدق في القول والإخلاص في العمل والتسلح بالدين ومخافة الله والحرص على وحدة العائلة وتضامنها وقوتها من أجل تحدي الصعاب والتغلب عليها مهما كان نوعها وحجمها بإذن الله، ثم تحقيقهما لأغلب أحلامهما وتوفيرهما ما يستحقانه من أجل عيش حياة سعيدة ويسيرة، وصولا إلى النكسة أو المصيبة أو “الطامة الكبرى”كما تسميها هي.
فبحث عن والده وسط كل هذه الرؤوس المشرئبة في هذا المكان الضيق المكتظ بالرواد، قبل أن يلتحق به ويجاوره في المجلس وكان جد كئيب وحزين وشاحب الوجه، يدخن السجائر تباعا على غير عادته – ولم يدخن البتة قبل اليوم – ويحتسي القهوة كأنه يشرب أكوابا من الماء إلى أن منعه ابنه وطلب منه الكف عن هذا الصنيع والانتحار البطيء، فدمعت عينا الأب فجأة ، وقال بصوت خافت حزين :
– أعلم حاجتك أنت وأختك بعد أن صدت أمكما الأبواب في وجوهكما (يترشف القهوة بنهم ويشعل سيجارة من أخرى)، سأخبرك بكل شيء، فأنت ما شاء الله أصبحت ناضجا و “رجلا” ويمكنني التعويل عليك…
– (مقاطعا ومتلهفا لمعرفة السر) هات من الآخر أبتاه ، فالوقت لا يسمح لنا بهذه المقدمة الطويلة
– (فاركا يديه ومتأففا) في الحقيقة يصعب علي الاعتراف لك بذنبي هنا خشية أن يسمعنا أحدهم (ينظر يمنة ويسرة ويأمره باتباعه خارج المقهى) هيا نكمل حديثنا ونحن نترجل في اتجاه البيت…
فيما كانت الأم تبكي خلسة حتى لا تسألها ابنتها عن سبب ذلك ،فتضعف وتكشف السر الذي أخفته عن الجميع منذ شهرين، هذا السر الخطير الذي دمر علاقتها بزوجها وكاد يفكك الأسرة ويتلاعب بها ويفرقها ويشتتها في لحظة لهو وفسق وانسياق وراء مجهول، لحظة كشفها خيانة زوجها وضبطه متلبسا مع صاحبته -وصاحبتها القريبة منها – في غرفة من غرف النزل الذي يقتاتون منه ويعملون فيه – فالمدير هو الزوج وكاتبته هي صاحبته، فيما كانت الزوجة مكلفة بالاستقبال – صباح يوم من الأيام باكرا ولم تزل الزوجة في المنزل تجهز حاجيات ابنها وابنتها ، وكانت منذ مدة تسمع همس بعض العمال ومحاولتهم إعلامها بإمكانية وجود علاقة محرمة بين المدير وكاتبته، إلا أنها كانت تصد “الوشاة” وتنهاهم عن الكذب والافتراء ومحاولة تشويه الناس والتلاعب بشرفهم وغيرها، لكن الأمر تكرر وتكاثر حتى بدأ الشك يساورها ويستعمرها ، و بدأت تلاحظ تغيرا في سلوك زوجها ، وتهرب صديقتها الحميمة منها باستمرار ، وشكوى زوجها منها ومن تصرفاتها في الآونة الأخيرة…
ومنها، وبعد أن تغلغل الشك في كل مكوناتها وجزئياتها ، و أفلت شعلة شمعة حبها الشديد لزوجها ، شرعت في مراقبتهما بحذر شديد ، وكلفت بعض العملة الذين تثق بهم للقيام بهذه المهمة في سرية تامة ، حتى ضبطتهما أخيرا متلبسين.
وقد شرح الأب لابنه ما صار وأرجعه إلى ضعفه ووهنه وقلة حيلته تجاه نفسه الأمارة بالسوء والشيطان الرجيم الذي وسوس له وزين له صنيعه هذا – وقد تعدد لقاؤه بكاتبته مرارا وتكرارا حسب اعتراف الأب -، إلى جانب تغير الأم وامتناعها عن القيام بواجباتها تجاهه في أغلب الأحيان، وغيرها من الأسباب الواهية التي اختلقها…
ثم أعلمه أنه حالما ضبطته زوجته مع صاحبته متلبسا تمالكت أعصابها وجلست قبالة الفراش وهي تأمر الكاتبة بمغادرة المكان فورا دون كلام أو سلام وتقديم استقالتها فورا أو إحضار زوجها ليتصرف معها ومع عشيقها أو تطلب الشرطة وتقوم بإجراءاتها القانونية التي يكفلها لها القانون في مثل هذه الوضعيات، فكان لها ما أرادت واستقالت الكاتبة عن مضض مكرهة لا مخيرة درءا لكل سوء محتمل قد يدمرها ويشعل لهيب نار فيها وفي عائلتها هي في غنى عنه.
فالتفتت إلى زوجها وقالت بكل ثقة في النفس ” أما أنت أيها الخائن فقد وأدتني وذبحتني من الوريد إلى الوريد، حكمت علي بالموت وأنا على قيد الحياة. ومع ذلك ، فلن أطلب منك الطلاق في هذه المرحلة على الأقل إلى أن يتخرج مصعب و نائلة ويتممان دراستهما قريبا جدا، ثم ننفصل دون قيد أو شرط. سأخفي الأمر برمته عن الجميع إلى موعد الطلاق، ولن يجمعنا غير الأبناء وتلبية حاجياتهم لا غير، سنعيش تحت سقف واحد في الظاهر أمام الجميع لنحافظ على وحدة البيت وتماسكه ، لكننا منفردان ومنفصلان في الأصل في كل شيء بما في ذلك النوم حيث أنام أنا على الفراش وأنت على الأرض تمهيدا للانفصال المنتظر”….
Discussion about this post