بقلم:ماهر اللطيف
كما كان مبرمجا منذ مدة ، تقابلنا ذات مساء في مقهى من مقاهي المدينة الفخمة المطلة على البحر في هذا الصيف الحار، وكان المكان يعج بالزوار من الجنسين ومن كافة الأعمار وحتى من السياح الأجانب بما أن مدينتنا مدينة ساحلية تضم عشرات النزل والمنشآت السياحة وغيرها…..
ولم يكن من السهل علي العثور عليها وسط هذا الإزدحام والضوضاء وكثرة الرؤوس سوداء الشعر – في معظمها – المشرئبة يمنة ويسرة في كل مكان وزاوية من زوايا هذا المعلم العمراني الجميل ، إضافة إلى أني لم ألتق بها سابقا ولم يحصل لي شرف التعرف عليها مباشرة رغم صداقتنا الممتدة منذ سنوات عبر شبكات التواصل الاجتماعي…
ومع ذلك، وبعد جهد جهيد نجحت في العثور عليها أخيرا هناك في آخر المقهى تجلس على كرسي مصنوع من الجلد الأسود ، جميل المنظر تماما مثل الطاولة الحديدية السوداء التي تتقدمه والتي حجبت عنها الرؤية ولم يعد من الممكن التعرف على “زوجي خد بيدي إلى الجنة” كما كانت تسمي نفسها على منصة فايسبوك – وتدعى سميرة في الأصل – ، بما أنها قصيرة القامة .
تقدمت منها ، وكنت أترنح خطوة إلى الأمام وأخرى إلى الوراء ، مترددة ومتثاقلة الخطى، مستغربة ومصدومة مما أرى حقيقة، فهل تكون هذه سميرة فعلا التي أعرفها أم أنها شخص ثان يشبهها في الوجه والملامح ويختلف عنها في التصرفات والمظهر وغيرها من الأمور التي أشاهدها أمامي؟
فقد نزعت خمارها وتنازلت عن تغطية شعرها وتزينت بمواد تجميل كثيرة حتى برز وجهها لوحة فسيفسائية متعددة الألوان والصور المرسومة على خديها ،ارتدت فستانا قصيرا جدا وردي اللون شفافا يكاد يلتصق بجسدها ويخرجه من مكانه، كشفت عن قدميها وجزء كبير من رجليها، مسكت نرجيلة مثل معظم رواد هذا الفضاء من الجنسين، ملأت الطاولة – أو كادت – بالمشروبات والمأكولات بجانب علبة سجائرها وهواتفها الجوالة ومفاتيح سيارتها وحافظة نقودها.
اقتربت منها بعد أن تعرفت إلي هي بدورها وأشارت لي بيدها لألتحق بها في مجلسها الغريب هذا، فاستقامت وتنحت عن كرسيها استعدادا لضمي إليها وتقبيلي والترحيب بي ، ثم استدعتني للجلوس بعد أن استعرضت جملة من المشاعر والأحاسيس التي تكنها لي وحبها الشديد واحترامها لشخصي وما أقدمه من مادة دسمة تنفع الناس وتفيدهم من خلف هاتفي وغيرها من الأمور التي شرعت في استعراضها تواليا ولم تترك لي فرصة مشاركتها فرحة هذا اللقاء – أخلاقيا على الأقل وإن كنت نادمة على قدومي إلى هنا ورؤيتها بهذه الطريقة التي جعلتني أحتقرها وأشمئز منها ومن تصرفاتها وأقوالها المقززة – …
فقد كنت فعلا مصدومة ويكاد يغمى علي من شدة وطأة هذا المشهد المقرف الذي أرغمني على العودة إلى الوراء سنوات محدودة لأغوص في أعماق الذكريات متى تعرفت عليها وقبلت مطلب صداقتها في مرحلة أولى، قبل أن تتوطد علاقتنا ونقترب من بعضنا البعض ونتخاطب باستمرار عبر الهاتف و السكايب وغيرها في مرحلة ثانية.
فقد كانت امرأة “فاضلة” ومتدينة قلبا وقالبا، ملتزمة دينيا وحريصة على المحافظة على مبادئ الإسلام وقيمه وفرائضه، داعية دائما إلى ضرورة التحلي بالأخلاق الحميدة والتمسك بالعادات والتقاليد السمحة القائمة على الحياء والاحترام والتقدير وغيرها ، كما كانت دائمة الذكر والحوقلة والتسبيح والاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، تحرص على التماسك العائلي والوحدة والتضامن داخلها وإيلاء الزوج والأب والأخ وكل ذكر ما يستحقونه من مكانة وتقدير وفق الدين والأعراف وما إليه…
كما كانت تحب زوجها وتعتبره قدوتها ودليلها في الحياة ،سندها وقائدها ومرشدها نحو سوي السبيل،ضميرها الذي ينقدها وينتقدها حتى لا تتيه وتسلك مسالكا تبعدها عن الصواب،لذلك سمت نفسها ب “زوجي خذ بيدي إلى الجنة”…
ومازلت غارقة في أعماق بحار هذه الذكريات حتى شعرت بكف يد تمس يدي وصوت يخترق أذني وهو يقول برقة وحنان:
– ما بك يا حنان؟ أين ذهبت ولماذا هذا الشرود؟ ألست سعيدة بلقائي الذي طال أمد تحقيقه؟
– (بصوت متقطع وضحكة مصطنعة) بالعكس عزيزتي ،فأنا مسرورة بهذا التلاقي ،غير أن هذه الروائح المتأتية من كل سيجارة و توابعها تقلقني وتؤلمني حقا إلى حد الاختناق
– (مقاطعة بصوت عال وهي تضغط على يدي بشدة) معذرة يا روحي، سأتنازل عن نرجيلتي الآن إحتراما لك وحرصا على سلامة صحتك التي تهمني بما أنك توأم روحي (تصمت برهة)، أو هل تريدين أن نغير المكان ؟
فرحبت بالفكرة وأسرعت في الخروج من هذا الجحيم قبل أن تلتحق بي سميرة بعد أن أتمت دفع معلوم ما استهلكته في المقهى ثم اتجهنا صوب الشاطئ أين استلقينا على الرمال مثل مئات الناس وبقينا ننظر إلى الأمواج ونستمتع بموسيقى تلاطمها وروعة منظرها الجميل ونحن نحمد الله ونشكره.
ومنها،استعرضنا ذكرياتنا بما تحمله من فرح وحزن وابتسامة ودمعة، وعلاقتنا ببعضنا و ببقية صديقاتنا وأصدقائنا متى كررت صدمي حين كشفت لي عن شبكة معارفها وكيفية التعامل والتواصل معهم في غياب زوجها ومحتويات حديثهم وما إليه من المواضيع التي تقشعر لها الأبدان، مما جعلني أخرج عن صمتي وأنزع قناع المجاملة والملاطفة والإطراء و أواجهها صراحة دون خجل أو تردد.
فقد أعربت لها عن استيائي وصدمتي الشديدة مما رأيت وسمعت بعد أن نجحت في خداعي طيلة هذه المدة، وندمي على مصاحبتها ومعرفتها ما دامت تنتهج هذه الطرق الملتوية في حياتها وتتحايل على الغير من أجل كسب وده وحبه وصداقته…..
ولم أكتف بذلك،فقد تصاعد صوتي تدريجيا حتى بات مسموعا لدى كل المتواجدين قربنا وأنا أعربد وأعاتب وألوم ، وسميرة متلونة الوجه ومتصببة العرق ،مصدومة لا تكاد تصدق ما تسمع مني أنا التي يعرفني الجميع رمزا للحياء والحشمة والتزام الصمت المطبق في كل الحالات والانسحاب والانغلاق على ذاتي عند الشدائد دون لوم أو عتاب أو إظهار ما أحس به من ألم وجراح لأي شخص كان…..
ومع ذلك، فقد واصلت عرضي هذا والدموع تنهمر مدرارا من عيني وجسدي يرتعد ويفقد كل توازن وتماسك إلى أن شعرت بحرارتي ترتفع وصوتي يفقد إشعاعه وجبروته والإغماء يكاد يفتك بي ،فأسرعت بالوقوف ومغادرة المكان دون استئذان أو إنصات لما كانت تقول “زوجي خذ بيدي إلى الجنة” حتى وصلت إلى منزلي وهرعت نحو حاسوبي لأحظر سميرة وأمحوها من شبكة علاقاتي إلى الأبد ، وأنسف حقبة تاريخية من حياتي ولو وقتيا.
Discussion about this post