عدت يوما من أيام الصيف ظهرا زميلة كانت تقبع بمصحة خاصة من مصحات المدينة جراء مرض أحاط بها ونال منها حتى نحلت وذبل وردها وريعانها وشحب وجهها وضعف جسدها إلى أن لم تعد تفرق بينها وبين الهيكل العظمي…
وكان المكان يعج بالزوار الذين قدموا من كل حدب وصوب للاطمئنان على ذويهم وأقاربهم الذين يقيمون هنا كل حسب وهنه ومشكله الصحي، وبأصحاب الميدعات البيضاء الذين لا يتهاونون لحظة من أجل القيام بواجباتهم المنوطة بعهدتهم.
فدخلت الغرفة، و صدمت بما رأيت ،حيث كان المكان مكتظا بالناس والإطارات الطبية الذين كانوا يلهثون من أجل إسعاف المريضة و إنقاذ حياتها بعد أن تعكرت حالتها الصحية ودخلت في غيبوبة تامة، مما جعل المسؤولين يطلبون من جميع زوار هذه الغرفة إخلاء المكان للسماح إلى الطاقم الطبي للقيام بواجباتهم بكل أريحية وتركيز وثبات وحرفية.
خرجت ، وبقيت أمام الغرفة مثل بقية الناس في انتظار سماع خبر مفرح إن شاء الله والدموع تنسكب من عيني وقلبي يخفق بقوة وفرائسي ترتعد، وأنا أدعو الله أن يشفي “سالمة” ويخفف عنها آلامها، سالمة التي تقاسمني المكتب في العمل والهموم والأفراح وكل تفاصيل الحياة….
سالمة ،حافظة أسراري ومستشارتي – والعكس بالعكس صحيح أيضا – ، منيرة دربي ومساري ومساعدتي على همومي ومشاكلي، أختي وعشيرتي قبل أن تكون صديقتي وزميلتي، مقرضتي ما أحتاجه من أموال كل شهر و لباس أحيانا – في المناسبات والأفراح – ، مربية أولادي وناصحتهم وموجهتهم كلما احتجت لها ولعونها…
سالمة التي قالت لي ذات يوم منذ سنوات خلت – في بداية مرضها – وهي تتألم وتتعذب أثناء العمل وقد منعتني من إخبار بقية الزملاء حتى لا نثير البلبلة والفوضى في العمل ونعطل مساره، قالت وهي تخفي عذابها بضحكة مفتعلة وهي تمسك بيدي وتعض شفتها السفلى بعنف من الألم ونحن نتحدث عن الصحة والعافية وأهميتها في حياة البشر حينها:
– ما القاسم المشترك بين الجسد البشري والسيارة، أو أية وسيلة نقل أخرى مشابهة يا إلهام ؟
– (بعد تفكير وتدبير) كلاهما وعاء يحمل في طياته مكونات و أجزاء متشابكة ومتعددة المهام، جزئيات كثيرة تتجمع لتكون هذه الذات الكاملة.
– (مقاطعة وهي تبتسم) نعم هذه المكونات يا “شطري” ، لكني سألتك عن القاسم المشترك….
ورغم محاولاتي وإجاباتي المتكررة، إلا أنني لم أهتد للصواب – أو بالأحرى إلى ما تريد أن توصلني إليه – حتى قالت لي – ولن أنسى ذلك ما حييت- بكل ثقة في النفس :
“الجسد كالسيارة يا” روحي”، إن أنت حافظت عليها جيدا وقمت بالصيانة اللازمة والتنظيف والمتابعة والرعاية ،وقدتها بشكل سليم وفق القواعد المتعارف عليها ولم تتهور وتتسرع وتخالف القوانين، ضمنت لها وقتا أطول للسير والبقاء في حالة جيدة مهما تلاعب بها الزمن بما أنك فعلت مقولة الوقاية خير من العلاج، وإن أنت خالفت ما سبق ذكره، فقد حكمت عليها بالفناء والاندثار والهلاك وإن كانت جديدة وفي حالة حسنة ظاهريا، وأمست مجرد ركام معدني أو خردة لا تصلح للاستعمال والسير لفترة طويلة على الطرقات مثل سيارتك أيتها “اللامبالية” – مستهزئة – …
فلا إفراط ولا تفريط كما يقول ديننا أختاه، وعلينا معرفة ما لنا وما علينا إن أردنا السلامة والنجاة من كل بلية و ابتلاء مهما كان حجمه ونوعه….”
وما زلت سابحة في هذا الماضي الجميل حتى فتح باب الغرفة فجأة ورأيت الأطباء والممرضين يهرولون بسالمة على نقالة الإسعاف وقد غطوا كامل جسدها وهم يتجهون بها إلى مكان مجهول – عندي -….
فانهرت تحت تأثير الصدمة وصحت عاليا وقد أطلقت العنان للبكاء و العويل – مثل بعض الحضور – بما أني ظننت أني فقدت “نصفي” للأبد بعد أن زارته المنية، ففقدت وعيي واعتل جسدي وتحيرت أمراضي وحييت، فوجدتني نزيلة الغرفة المجاورة لغرفة سالمة التي حملوها بسرعة إلى قاعة العمليات (كما علمت لاحقا) أين خضعت لعملية دقيقة على مستوى القلب – عملية قلب مفتوح – كللت بالنجاح والحمد لله.
وبعد أيام قليلة، غادرت المصحة وتركتني هناك وحالتي الصحية تتعكر يوما بعد يوم، وكانت يوميا تعودني أكثر من مرة وتعتني بأبنائي وتسهر على توفيرهم ما يستحقونه في غياب والدهم الذي يعمل في المهجر….
وكانت كلما تجلس بجواري تقول لي بصوتها الرقيق والحنون “اعتني بصحتك وحافظي عليها، فمازالت صالحة للاستعمال لفترة طويلة يا عمري، يا خردتي”، لكني كنت أدمع وأنا أمسك بيدها وأقول “أي سيارة زارت مأرب تصليح السيارات وفتح محركها مرة، لن تعود كما كانت مهما غيرت من قطع غيارها وجددت فيها إلى أن تمسي مهترئة وكثيرة الإصلاح ،مجرد ركام معدني كما قلت لي سابقا، خردة ترمى في مقبرة الخرد ما إن يحل موعد سحبها من الطرقات”….
فهل سأرمى مع الخرد الأخرى في ذاك المستودع الموحش من هنا؟، أم إني سأعود إلى منزلي وعائلتي وأتماسك قليلا لأواصل رسالتي في هذه الدنيا بعد هذه الصيانة وهذا التعديل؟ أم إني سأستعيد صحتي وعافيتي وأتحدى المرض والوهن؟….
Discussion about this post