تحليل قصيدة “بادي”
للشاعر عصمت شاهين الدوسكي
بقلم: إسماعيل بادي
بادى
يا نفحة الطّين في أرض الأجدادِ
يا لحد يضمّ أمّي بين تراب التل والزادِ
بادى ، قبلة الميلاد بعد الميلاد
ورحيق زهد بين جياع الأحفادِ
تكسو الأشجار ظلها وثوب الجنان
يفوح نقاء وجمالا بلا حسادي
*********
بادى
نفحة الأجداد دارت فوق مدار
وحقول في ربوع الغربة تنادي
أين الأصيل والكريم والمقيم
أين من زرع الجبل والسهل والوادي؟
*********
أمي يا نسمة الروح في حقل بديع
اغتصبوا أرضك زورا فوق الإشهادِ
ختموا على الأوراق بدم بارد
وتفاخروا بالجهل والوهن والفسادِ
عذرا يا أمي، هم أهلك، عشيرتك
وأقرباؤك اشتركوا بحصص الصيادِ
جعلوا السحت مفخرة للأجيال
رغم زيارتهم للكعبة، قبلة الإسنادِ
مظاهر تجلت بين غني وفقير
وظالم ومظلوم تحت راية الجلادِ
***********
نعم يا أمي يا سيدة النساء
صلة الرحم ولًت هاربة من الزنادِ
الشريف من يأكل لحم أخيه حيّا
والكريم يعد ماله بلا آلة تعدادِ
والقريب يخشى زيارة القريب
خوفا من أن ينقص شيئا من الزادِ
رحلت الطيبة والحنان والرحمة
وخبز التنور الحار وفجر الجوادِ
*************
ماذا أقول يا أمي عن بادي
تركت ذكريات بين الأيادي
ذكريات مشروخة بحب الذات
وصراعات على شبر تراب العبادِ
ماذا أقول يا أمي وقبرك هنا وحيدٌ
هل تسمعين صوتي وبكائي البادي؟
حملت معول الكلمات في قلبي
وزرعت شمائل الحب الهادي
وقلت للنساء: أمي سيدة النساء
هي أجمل الآيات ونور إرشادي
هي الحب والحنان والرفعة والجنة
هي قدري وحبي وحضن ميلادي
***********
ماذا أقول يا أمي عن بادي
كان الوقار سيد السادات
وأصبح الوقار في خطوط سادِ
لم يبقَ النسر عاليا في الفضاء
بعد نزيف بلد كباقي البلادِ
لم يعد التاريخ مفخرة كما كان
ولم تعد الملاحم تحت المدادِ
تفرق البنون وشاخ الوالد والوليد
من حرية زائفة وحقوق الأجسادِ
والعدل أصبح صورة معلقة
على جدران وأعمدة بلا اعتمادِ
***********
آه وآه يا أمي ماذا أقول ..
الحرب دمرت بيتي وتركته كالرمادِ
ولجأت لأهلي فلم أجد أحدا
سوى منفى يلم هزيمة الأحفادِ
فلا حبيب ولا قريب ولا خل
سوى قلم ينزف حبا لإسعادِ
هكذا يا أمي بين الغيوم السود
مررت على قبرك في بادي
هي اختصار لنبع الأماني
وقدر أحلامي وميلادي وميعادي(3).
التّحليل:
تُعَدُّ قصيدة “بادي” للشاعر عصمت شاهين الدوسكي من القصائد العميقة التي تجمع بين الحزن والحنين والشكوى من تغير الزمان. يفتتح الشاعر قصيدته بمناجاة مؤثرة لأمه الراقدة في التراب، متخذاً من قبرها نقطة انطلاق ليسرد تحولات مجتمعية وتغير قيمة.
وبما أن العنوان هو عتبة النص ومدخله الأساسي، تقول الدكتورة المغربية مليكة عبد الرحمن حول القصيدة : ” إننا كقرّاء نرى كيف اختُزل هذا الزخم الهائل من الكلمات والرموز والأساليب في هذه اللفظة المكونة من أربعة حروف، وكيف جعلنا الشاعر نحس إحساسه بالانتماء ونعيش تجربته، ونشتم رائحة تربة بلدته، وكيف أبدع في تصوير مسقط رأسه ومدفن أمه… عنوان كبير لنص يحمل الكثير من الدلالات والمعاني التي تمنحه جمالية في اللفظ وسلاسة في التعبير وبلاغة في التبليغ”.
تتجلى براعة الشاعر في رسم صورة متكاملة لقرية ” بادي ” في الماضي والحاضر، حيث كانت في الماضي مثالاً للقيم النبيلة والعلاقات الإنسانية الصادقة، أما في الحاضر فقد تحولت إلى مكان تسوده المصالح المادية وتنعدم فيه صلة الرحم. يتخذ الشاعر من أمه رمزاً للأصالة والقيم النبيلة التي اندثرت، فهي في نظره تمثل كل ما هو جميل وأصيل في الماضي.
يتميز النص بلغته العاطفية المؤثرة وصوره الشعرية البليغة، فنراه يشبه أمه بنفحة الطين في أرض الأجداد، ويصور الأشجار وهي تكتسي ظلالها، كما يصور قلمه وهو ينزف حباً. وقد التزم الشاعر بقافية موحدة هي حرف الدال المكسور، مما أضفى على القصيدة إيقاعاً موسيقياً متناغماً.
يكشف النص عن معاناة الشاعر من الغربة والوحدة في وطنه، فهو يشعر بالضياع بين ماضٍ جميل يحن إليه وحاضر مؤلم يعيشه. وتتجلى هذه المعاناة في شكواه من تفكك العلاقات الاجتماعية وطغيان المادية على القيم الإنسانية، حيث أصبح ” الشريف من يأكل لحم أخيه حياً ” كما يقول.
تصل القصيدة إلى ذروتها العاطفية في المقاطع الأخيرة، حيث يصف الشاعر حالة الضياع والتشتت التي يعيشها، ولا يجد ملاذاً سوى قلمه الذي ينزف حباً. وتُختتم القصيدة بإشارة رمزية إلى ” بادي ” التي تختزل كل أحلام الشاعر وآماله، لتبقى شاهدة على تحول الزمان وتغير الإنسان.
في النهاية، تمثل القصيدة صرخة حزينة تعبر عن ألم التحول الاجتماعي وفقدان القيم الأصيلة، متخذة من ” الأم والقرية ” رمزين لهذا التحول المؤلم. وهي في الوقت نفسه محاولة لتوثيق هذا التغير وإحياء ذكرى الماضي الجميل في مواجهة حاضر قاسٍ يفتقد القيم الإنسانية النبيلة.
ماذا تمثل قرية بادي للشاعر ..؟ :
تمثل قرية “بادي” للشاعر أكثر من مجرد مكان جغرافي، فهي تحمل أبعاداً عاطفية وثقافية ورمزية عميقة في القصيدة.
فبادي بالنسبة للشاعر هي المكان الذي يضم رفات أمه وذكرياته معها. يصورها في مطلع القصيدة كأرض الأجداد وموطن الأصالة، حيث كانت في الماضي تجسد القيم النبيلة والروابط الاجتماعية القوية.
وكما تقول الأكاديمية السورية ” كلستان مرعي ” حول قصيدة “بادي”، إنها من عيون قصائده المرهفة رقةً وعذوبةً وسلاسةً. فهي قصيدة وجدانية إبداعية تصويرية، وتعبير مباشر عن مشاعر الشاعر من حب وحنين وعذاب، يمتاز بالانفعال العاطفي الصادق وتوهج الذات. يصور القرية تصويراً موضوعياً طبيعياً بمحرك خلاق ( القرية – الأم ) بعد انفعاله على رثاء أمه العظيمة، سيدة النساء والأرض والحب والحنان والرفعة. ويصف ما جرى لتلك القرية الجميلة بعد رحيل أمه وضياع العدل وفقدان القيم السامية والأخلاق النبيلة والخصال الحميدة والفعال الكريمة. ثم يتأوه بحسرة ودمعة ليخبر والدته – إذا كانت تسمعه – عن لجوئه للأهل والأقارب بعد الرحيل عن الديار، فلم يجد أحداً غير المنفى، فلا حبيب ولا قريب ولا خِلّ، إلا قلمه الذي ينزف بالحب لي
Discussion about this post