في الطريق إلى طوكيو
—————————-
انطلقت إلى طوكيو من الدوحة في قطر ، سارحاً في آفاق تجربة اليابان التاريخية والحضارية التي قرأت عنها الكثير ، وكان طبيعياً أن تمر في سراحي ذكرى يوم السادس من آب عام 1945 التي فجعت بها اليابان وكل شعوب العالم ، يوم صوب طيار أمريكي أول قنبلة ذرية نووية نحو مدينة هيروشيما ، وأعقبه طيار آخر صوب مثلها على مدينة ناغازاكي فقتل الأمريكيان في لحظات مئات الآلاف من البشر الطيبين ، وتركا مئات الآلاف من الجرحى والمصابين المشوهين الذين عانوا عقوداً من آثار الإشعاع ، وأحرقت الأشجار ، ولوثت مياه الري لسنوات طويلة ، وعلى ما أذكر فإن النصب التذكاري للجريمة الأكبر في تاريخ البشرية الموجود في حديقة هيروشيما يشير إلى أن عدد ضحاياها هو مليونان وثلاثمائة وسبعين ألف ضحية ، إذن أنا ماض لزيارة شعب يعرف جيداً خطر أسلحة الدمار التي تمتلكها دول حولنا تهدد أمن البشرية كل يوم ، وتفخر بقدرتها على الإبادة الجماعية ، لكن كما أن تجربة اليابان في تحملها لأخطر جريمة في القرن العشرين جديرة بالتأمل ، فإن تجربتها في تحويل الكارثة إلى نقطة انطلاق جديدة ، وإلى نجاح مدهش في بناء حضارة علمية وتقنية تسبق حضارات كثير من الأمم جديرة بالتوقف والدراسة أيضاً ، ولطالما أثارتني قدرة شعب اليابان على خوض التحدي الحضاري ، لقد أفاق على حقيقة حاجته إلى تقدم يضمن له حضوراً جديداً في العالم بعد أن فقد حضوره العسكري ، فكان العلم ساحة حربه وانتصاره ، و لقد بدأ النهضة بترجمة العلم ، تماماً كما فعل أجدادنا القدامى حين وضعوا مشروعهم النهضوي في القرن الأول الهجري ، ولقد تمكن اليابانيون من تحقيق معادلة دقيقة شديدة التوازن ، هي أن يكسبوا كل ما أنجزت أوربا وأمريكا من تقدم علمي دون أي استيراد لأفكار باهتة أو قيم ساقطة ، أو عبثية ميتة ، أو انبهار بفلسفات تدعو إلى تعريف الحداثة بالقطيعة المعرفية مع الماضي ، لقد بات أهم ما قدمته تجربة اليابان الحضارية هو تحقيق تقدم علمي ضخم ، مقابل حفاظ أضخم على الثقافة اليابانية وعلى القيم التاريخية والتراثية ، وهذا لا يمنع من أن المجتمع الياباني اليوم تأثر بعد العولمة المعاصرة بكثير من القيم الغربية إلا أن المنهج العام للمجتمع والدولة هو الحفاظ على الهوية القومية التي جعلت اليابان دولة عظمى وهي خارجة من قاع مأساة الحرب ، وأتذكر هنا ما كتبه سفير أمريكي اسمه ( إدوين أشاور ) في كتاب سماه ( اليابانيون ) حيث طرح السؤال الذي يدور في ذهن كل من يتطلع إلى تجربة اليابان قال : ما السر في نهوض اليابان ؟ وأجاب إنهما أمران الأول هو إرادة الانتقام من التاريخ والرد على الهزيمة ، والثاني هو بناء الإنسان ، وحقيقة أصبحت اليابان نموذج النهوض الملهم لكل شعوب الأرض ، وأحسب أن أهم أسرار النهوض الذي حققته هو استلهامها لقيم العمل ، ولأخلاق التعامل الاجتماعي ، الأمر الذي تفتقده الولايات المتحدة التي ركزت مفاهيم الأخلاق على القيم الفردية ، في حين ركزت اليابان على القيم العامة ، وأذكر أن اليابانيين قاموا في مطلع التسعينيات بمراجعة كبيرة للبرامج التعليمية ونظفوها من القيم الفردية ووضعوا برامج تعليمية للسلوك الإنساني وللأخلاق ، ويبدو مدهشاً أن نعلم أن أصعب وظيفة يدفع الياباني جهداً كبيراً إذا أراد الحصول عليها هي وظيفة المعلم ، وحسبنا أن نفهم بعض أسرار تخلفنا إذا ما تأملنا هذه الحقيقة ، فضلاً عن تأمل حالة أخرى تسمى الانضباط الجماعي ، فضلاً عن تقدير لمعنى الزمن الذي يستهلك عندنا بلا ثمن ولا جدوى على الغالب ، ونجاح اليابانيين في ضبط إيقاع حركة المجتمع ، ثم في الإفادة القصوى من الزمن حققا معنى الإدارة الرشيدة المتوازنة ، لقد أدرك اليابانيون أن الحداثة تبدأ في الرأس فعملوا على تحديث العقل ، وعلى بناء الإنسان فكانت لهم تجربتهم الحضارية الأرقى في العالم رغم زحام تجارب الحضارات الراهنة .
Discussion about this post