مهاد القصيدة : من الفكرة إلى التكوين
بقلم : الدكتور عبدالكريم الحلو
طقوس ما قبل الكتابة :
——————–
1. الانفصال عن الضّجيج الخارجي:
يبدأ الشّاعر بالابتعاد تدريجيًّا عن صخب العالم، ينسحب إلى مساحته الخاصّة… مكان، أو لحظة، أو حتّى صمت داخلي يخلقه لنفسه.
2. تهيئة المزاج الرّوحي والنّفسي:
لا تُكتب القصائد في اللحظات المسطّحة، بل حين يكون القلب في ذروة انفعاله… سواء حزناً، فرحاً، دهشة، أو حتّى حنيناً عميقاً.
3. استدعاء اللغة الدّاخليَة:
قبل أن يكتب الشَاعر كلمة، يتحدَث مع نفسه بلغة لا تُسمع، يبدأ بتذوّق الإيقاع من داخل الصّدر، كأنّ الكلمات تُهمَس له لا يُمليها هو.
اللحظة المفصلية (القبس) :
————————-
• هي تلك “الرّعشة الأولى”، الشّرارة الَتي لا يمكن توقعها، ولا صناعتها قسرًا.
• أحيانًا قد تكون صورة عابرة، أو جملة في كتاب، أو نظرة شخص، أو حتّى رائحة مطر… تكفي لتبدأ القصيدة في الاندفاع من اللاوعي نحو الصّفحة.
أدوات الشّاعر الحسّيّة والذّهنيّة :
——————————
1. دفتر أو ورقة خاصّة (البعض لا يستطيع أن يكتب إلا على ورق معين، برائحة معينة).
2. قلم مُحبب (وكأنّ الحبر امتداد لشريانه).
3. صمت، موسيقى، أو تلاوة داخليّة (بحسب مزاجه وموسميّة القصيدة).
4. نصوص محفّزة (بعض الشّعراء يقرؤون قصائد لغيرهم لتحفيز النَّفَس الشَعري).
الكتابة بوصفها طقساً لا نصّاً فقط :
——————————
• الكتابة ليست فعلاً ميكانيكيّاً، بل هي طقسٌ مقدّس عند الشّاعر الأصيل.
• ولهذا تختلف القصيدة الحقيقيّة عن “النّظم العادي”… لأنّها تأتي من أعماق مغمورة، لا من سطح الكلام.
مرحلة التّحرير والمتابعة :
———————-
• تبدأ مرحلة “التّحرير” و”المراجعة”
الشّاعر الآن محرِّر لما أملاه عليه اللاوعي والإلهام.
ليست الفكرة الشّعريَة شيئًا يُقرَّر مسبقًا،
ولا تُصاغ بقرار إراديّ واعٍ،
بل هي ومضة، قبس، شرارة، تُضيء داخل الظّلمة، وتباغت الشّاعر كالحلم في لحظة غياب الحذر.
إنَها اللحظة الأكثر سحرًا وغموضًا في تجربة الكتابة الشّعريّة، لحظة لا تُفتعل، ولا تُكرّر، ولا تُستنسخ.
ما هو القبس؟
————
القبس الشّعريَ هو لحظة اصطدام داخل الشّاعر بين الإحساس واللغة.
هو حين يولد التّوتّر بين صورة داخليّة دفينة وكلمة تبحث عن جسدها.
إنّه التّجلّي الأول:
تلك اللحظة الّتي يشعر فيها الشّاعر أنّ ما يعتمل في داخله لم يعد يحتمل الصّمت.
هو ليس فكرة جاهزة، بل إحساسٌ في طريقه إلى التّشكَل.
مثل وميض برقٍ يعبر سماء العقل،
فيترك أثره في الذّهن،
ثم ينسحب، ليبدأ الشّاعر في ملاحقة أثره، كلمة كلمة، وسطرًا سطرًا.
كيف تحدث لحظة القبس؟
————————-
1. انفعال داخلي غير متوقّع:
=================
قد تبدأ اللحظة بصورة عابرة
امرأة تمشي تحت المطر،
وجه حبيبٍ قديم،
طفل يركض خلف طائر،
حلم مفاجئ.
شيء ما يهتزّ داخلك دون سابق إنذار.
هنا لا تفكر، فقط تشعر أنّ القصيدة على وشك الولادة.
2. شرارة لغويّة:
==========
أحيانًا تأتي الكلمة أولًا، كلمة تحمل شحنة غير مألوفة:
“أرملة الضّوء”، “كفن اللغة”، “مرافئ متجمّدة”…
تتدفّق الجملة الأولى كنداءٍ داخلي،
وتبدأ القصيدة بعبارة، لا تعرف كيف جاءت، لكنّك لا تملك إلّا اللحاق بها.
3. صمت داخلي يسبق الانفجار:
===================
لحظة القبس تسبقها عادةً لحظة سكون —
شعور بعدم الرّغبة بالكلام، بانعزال صامت، كأنّ اللغة تستعدَ للقفز من عمقها.
هنا يشعر الشّاعر أنَه في الهامش الزّمني للقصيدة، في التّمهيد الغيبي للانفجار الشّعريّ.
أمثلة شعريّة على لحظة القبس
• المتنبي قال:
إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ
هذه الجملة لم تأتِ ببطء، بل كانت شرارة وعي فجائيّة لحظة تحدٍ وجودي.
• السّياب كتب:
كأنّ يدًا من خلفِ المقابرِ تسحبُ السّتار
إنها ومضة شعور بالخوف من المجهول، تلبّستها صورة شعريّة مذهلة.
• محمود درويش قال:
على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة
القبَس هنا بدأ من مقاومة اليأس، تحوّل إلى حكمة نثريّة لكنّها شعرٌ محض.
ما بعد القبس؟
ء========
بعد لحظة الاشتعال، يبدأ التّحدي الأصعب:
كيف تُمسك بتلك الشّرارة قبل أن تنطفئ؟
كيف تُمهّد لها طريقًا من الكلمات دون أن تخنقها؟
الشّاعر الحقيقي لا يقتل القبس بالثّرثرة، بل يُنقّيه، يُغذّيه، ويترك له حرّيّة التّمدّد.
خاتمة :
لحظة القبس هي الأصل،
هي النّبع الأول للقصيدة،
ومن لا يشعر بها، لا يكتب شعرًا
بل يُنظم كلمات.
إنّها لحظة نادرة، مدهشة،
يجب احترامها، انتظارها،
والتّفرّغ لها حين تحضر.
الشّاعر ليس من يكتب في أيّ وقت،
بل من يعرف متى يفتح نافذته للقبس
حين يطرق الباب.
الدكتور عبدالكريم الحلو
Discussion about this post