قراءة نقدية في قصيدة “كيف نسينا؟” للشاعر حميد يعقوبي
كيف نسينا ؟
——————-
قبل ألف عام ربما التقينا ولا ندري
أرواحنا قديمة ولازالت بجسدينا تسري
نسينا من فينا بدأ الحب الأول
ونسينا من أكمل الحب الثاني
كبرنا ..
وما كنا يوما في العشق صغارا
ونسينا من كان في الوصل مدرارا
كنا سوية في لجج الصبابة غرقى
نسينا من منا نجا من الغرق الأول
نسينا من منا بقي عالقا بشباك الثاني
نسينا من أنقذ الآخر من سرقات الزمان
من صار للثاني الماء والهواء ودفء المكان
نسينا هل نحن من بدأناه
أم هو الذي اجتاحنا في غمرة الهذيان
حين شرع أبواب قلبينا ا دون استئذان
نسينا ..
من منا جعل هذا الحب فرض صباح
نستهل به النهار
من جعله سنة مساء
نبدأ به عبادة الانصهار
فلا تقصري حبيبتي في صلاتك فيه
حتى لا تدخليني بأوزارك النار .
—————————
حميد يعقوبي /القنيطرة
2025/01/28
★سؤال النسيان أم استدعاء الذاكرة؟
في فضاء الشعر، حيث تتناسل الأسئلة من عمق الذاكرة العاطفية، تتجلى قصيدة “كيف نسينا؟” للشاعر حميد يعقوبي كرحلة وجدانية في أروقة الحنين، واستفهام الزمن عن أثر الحب في الوجدان.
العنوان ذاته يحمل مفارقة جوهرية، إذ يبدو كسؤال عن كيفية النسيان، لكنه في جوهره يُشكك في إمكانية حدوثه أصلا. فالفعل “نسينا” يوحي بالغياب، لكنه مقرون بأداة الاستفهام “كيف”، ما يجعله أقرب إلى استدعاء الذاكرة لا إنكارها.
★البنية الدلالية والتصويرية: بين النسيان والاستذكار
تنطلق القصيدة من بعد زمني ممتد:
“قبل ألف عام ربما التقينا ولا ندري
أرواحنا قديمة ولازالت بجسدينا تسري”
هنا، يخرج الشاعر بالحب من بعده الزمني التقليدي، ليمنحه طابعا سرمديا، حيث تتلاقى الأرواح في مستوى يتجاوز الإدراك العادي.
لكن رغم هذا الامتداد الروحي، يتسلل النسيان:
“نسينا من فينا بدأ الحب الأول
ونسينا من أكمل الحب الثاني”
تكرار الفعل “نسينا” ليس مجرد تأكيد على الضياع، بل هو حيلة بلاغية، تعكس أن الذكرى لا تزال حاضرة، رغم التظاهر بغيابها. فالتكرار يعمّق المفارقة بين الادعاء بالنسيان والرغبة في التذكر.
تتصاعد التساؤلات في النص، كاشفة عن صراع داخلي بين النسيان والاستذكار:
“نسينا من منا نجا من الغرق الأول
نسينا من منا بقي عالقا بشباك الثاني”
يقدم الحب هنا كبحر متلاطم الأمواج، حيث لا يملك العاشقان مصيرهما بالكامل.
لكن المفارقة العميقة تتجلى في التساؤل: هل النجاة من الحب فوز أم خسارة؟ وهل البقاء أسيرا لشباكه امتداد للارتباط أم صورة أخرى للضياع؟
★البنية الإيقاعية والتركيب اللغوي: نغمية التكرار والاستفهام
على مستوى الموسيقى الشعرية، تعتمد القصيدة على إيقاع داخلي دائري، يتولد من التكرار المنتظم لفعل “نسينا”.
هذا التكرار لا يوحي بالثبات، بل يُدخل القارئ في دوامة وجدانية، تعكس حالة الحيرة التي تعيشها الذات الشعرية.
أما التركيب اللغوي، فيرتكز على الجمل الخبرية ذات الطابع الاستفهامي، مما يمنح النص بعدا تأمليا فلسفيا حول ماهية الحب واستمراريته في الذاكرة.
★البعد الصوفي للحب: بين الفرض والسنة
في ذروة النص، يتحول الحب إلى حالة روحانية:
“من منا جعل هذا الحب فرض صباح
نستهل به النهار
من جعله سنة مساء
نبدأ به عبادة الانصهار”
هنا، لم يعد الحب مجرد علاقة بين عاشقين، بل أصبح طقسا يوميا، وعبادة وجدانية تتجاوز البعد الحسي إلى قدسية الحب في التصور الصوفي.
ذروة هذا البعد تتجلى في:
“فلا تقصري حبيبتي في صلاتك فيه
حتى لا تدخليني بأوزارك النار”
حيث يتحول الحب إلى دين خاص بالعاشق، يجعل الاستمرار فيه ضرورة روحية لا اختيارا.
★البناء الفني والشكل الجمالي للقصيدة
1. البناء الهيكلي: تصاعد التدفق الشعوري
تتمتع القصيدة ببنية متماسكة، حيث تبدأ بـتساؤل تأملي حول النسيان، ثم تتطور إلى استحضار مراحل الحب، قبل أن تبلغ ذروتها الصوفية في الختام.
هذا البناء يجعل من القصيدة رحلة استبطانية، تتدرج من الحيرة إلى الإقرار بأن الحب حالة دائمة في الروح.
2. الإيقاع الداخلي: التناغم والتكرار
يعتمد الشاعر على ثلاثة عناصر رئيسية لبناء إيقاع النص:
– التكرار الإيقاعي: تكرار “نسينا” يخلق نسقًا دائريا يعكس طبيعة التساؤل اللانهائي.
– التوازي الصوتي: كما في:
“من منا نجا من الغرق الأول / من منا بقي عالقا بشباك الثاني”
حيث يساهم التوازن في منح النص إيقاعا موسيقيا متماسكا.
– الصياغة الإنشائية ذات الطابع الإنشادي: مما يُضفي على القصيدة بُعدًا غنائيا قريبا من الترانيم الصوفية.
3. التراكيب اللغوية والتصوير الفني
تستند القصيدة إلى الصور الحسية والرمزية، حيث نجد استعارات مائية مثل:
“الغرق”، “الشباك”، “المدرار”
مما يُكسب العلاقة العاطفية طابعا سيالا، يعكس تقلبات العشق بين الغياب والحضور.
4. البعد السردي داخل النص
رغم أن القصيدة تنتمي إلى الشعر العاطفي التأملي، إلا أنها تحمل خطا سرديا ضمنيا، حيث تستعيد الذات الشعرية مراحل الحب، من البداية، إلى التوهج، إلى لحظة التساؤل، ثم النضج العاطفي.
هذا التوظيف السردي يجعل القصيدة أشبه بمونولوج داخلي، يمنحها انسيابية خاصة في التلقي.
5. الوحدة العضوية والتماسك النصي
تتمتع القصيدة بوحدة عضوية قوية، حيث ترتبط جميع أجزائها بفكرة محورية هي:
“الحب والذاكرة: هل يمكن للنسيان أن يكون حقيقة؟”
فكل الصور والاستعارات تخدم هذا السؤال، ما يجعل النص متجانسا ومتوازنا على المستويين الدلالي والجمالي.
★ هل يمكن حقا أن ننسى؟
تكشف قصيدة “كيف نسينا؟” أنها ليست عن النسيان، بل عن استحالة النسيان. فالحب هنا ليس مجرد تجربة زمنية، بل حالة متجذرة في الروح، تمتد عبر الأزمان، تتجاوز الحواس، وتتحول إلى عبادة عاطفية دائمة.
ينجح الشاعر حميد يعقوبي في تقديم نص عميق فلسفيا وصوفيا، يُعيد صياغة مفهوم الحب، لا كذكرى ماضية، بل كـكيان خالد يتجدد رغم ادعاء النسيان.
حميد يعقوبي
Discussion about this post