بقلم … إيناس سلطان
(إنّها مجنونة)
٤٠ سم فوق روسية التّخت، على حائط مطليٍّ بالوردي، في غرفة مشتركة مع ثلاثة أخوة صبيان، في مدينة غزّة المنكوبة،
كتبتُ :”سأكون بين اللوز”
قرأها أبي وقال؛ مجنونة
لم أفعل شيئا في حياتي يجعلني أستحقّ هذا اللقب، كنت عاديّة جدًّا، سطحيّة ولطيفة، لكنّني مجنونة في نظر أبي.
أخرج إلى السّطح لأشمّ الهواء فيقول مجنونة
أتحدّث في الهاتف مع صديقتي وأضحك فيقول مجنونة.
مجنونة
مجنونة
لم تسبّب لي كلمة مجنونة أيّ أذى يذكر،
عدا عن المرّات القليلة الّتي أقرأ فيها كلمة مجنون عند حسين البرغوثي فأبكي، أبكي لأنّني تمنّيت أن أكون مجنونة حقّا كما ادّعى أبي.
لا أذكر أنّني تأثّرت بشيء ما من قبل، ولا يوجد حدث أو موقف محوري عنده انعطفت حياتي، ولا أعلم إن كان هذا منطقيّا أم لا(ألّا يكون للفراشة أثر) وقد تساءلتُ في إحدى قصائدي: ما الّذي يُشكلّني إن كنتُ لا أتأثّر أو أؤثّر.
المهم أنّ المجنونة كان سيكون لها مصير الجدّ وأخت الجدّ وأب الجدّ (كلهم من جهة الأب).
كنتُ سأكون خرساء، وصلتُ سنّ الثّالثة دون أن أنطق كلمة واحدة،
(لقد كنت حكيمة جدّا حتّى الثّالثة)
لولا ممرّض شاب في الحارة (استشهد في الحرب مع عائلته وأحفاده قبل شهرين)
أقنع أبي أنّ لديّ شرش (زائدة جلدية تحت اللسان تربط طرف اللسان بقاع الفم، مما يحدّ من حركته) وأنّني أحتاج عمليّة لقطع هذا الشّرش وسأتكلّم فورا، اقتنع أبي وأجريت الجراحة، وتكلّمتُ بعد العمليّة ب عشرة أيام.
كانت أول كلمة أنطقها؛ بابا..
البابا كان يقول أنّني كنت عصبيّة ومجنونة حتّى وأنا صغيرة، ولأنّ لساني كان مربوطا احتجت أن أعبّر عن نفسي بطرق أخرى
مثل التّكسير والعضّ والضّرب
كان العنف حاجة ملحّة في حالتي.
ثمّة قصّة غليظة متناقلة عنّي في العائلة، أنّني بعمر السّنتين
كنت أكسر بأسناني أيّ زجاج يقع تحت يدي مهما كانت صلابته،
(امراة من طرف العائلة سألتني عن وضعي مع الزّجاج
وقد كنت في العشرين من عمري)
المهم انقطع الشّرش وانفكّ اللسان ونطقتُ أوّل كلمة
بابا
(وهي كلمة تخرج بشكل أساسيّ من الشّفتين والحلق
ولا دخل للسان المربوط).
**
(وصايا أمّي الثّلاث)
أمي لم تكن مقتنعة أنّني مجنونة، كانت تراني قاسية، جافة، جاحدة، ساخطة ويهوديّة
أجد أمّي أكثر دقة من أبي، أجدها منصفة وحقّانية فقد كنتُ فعلا قاسية وجافة وجاحدة وساخطة ويهوديّة.
لم أشعر يوما بعاطفة واضحة نحو العائلة، ماذا يعني أب
أم أخوة وأخوات، وكلّ ما فعلته في حياتي أن أحذو حذو المعري:
وما جنيتُ على أحد
ربما حزنتُ مرّات قليلة على أّمي، على اكتئابها، وقلقها الَذي دمّر فرصها كلّها بحياة طبيعيّة. عانت أمّي من البارانويا
(أحد ما يخطط لقتلها كلّ أسبوع) وعانت من متلازمة ماذا سيقول عنّا النّاس.
كانت تطرق باب غرفتي( أول غرفة خاصّة امتلكتها كان عمري ١٩ عام) لتقول لي أنّ حلقها يشعر بالنّهاية، وأنّها ستموت، ربّما الليلة.
تطرق باب غرفتي عام 1999
توصيني بأخي()
تطرق باب غرفتي عام 2005
على أختي()
تطرق باب غرفتي عام 2011
وتوصيني على أختي الأخرى()
تقول: أخوتك أمانة، حاسة حيصيرلي شي أنا مش مطولة.
ولأنّي كنت أصغر من أن أتفهّم وأراعي
كنت أنهرها وأطردها.
الآن فهمت أن أمّي كانت تحاول أن تنتقم منّي، لأنّني كنت فاتح الرّحم/ وسافك دماءها( الابن البكر)
أمّي تعتقد _حتّى لو لم تعرف_
أنّني الوحيدة الّتي أستحقّ أن أحمل عنها معاناتها..
ملاحظة: لا أعلم ما العلاقة بين الكتابة عن العائلة والحرب.
.
بقلم … إيناس سلطان
غزة
Discussion about this post