المقاومة في الشعر الأندلسي
دراسة تحليلية نقدية.
بقلم / أيمن دراوشة
المقدمة
نبذة تاريخية
الحمد لله والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم وعلى صحبه أجمعين وبعد..
يرى بعض الكتاب أن أوروبا هي أول من عرف أدب المقاومة وذلك حين وقعت في قبضة النازية، فكان الأدب أحد العناصر القتالية التي قاومتها، وشنت عليها حرب بلا هوادة، فقد بدأ الأدب يكشف مخازيها وإهدارها لكرامة الإنسان، فعبأ النفوس وأشعل جذوة الحماس ودعا للقتال، ونادى لمقاومتها، حتى يتقلص ظلها وتذهب ريحها، فتسلم البشرية من بالغ ضررها وعظيم خطرها.
هذه النظرة إن خلت من التعصب فهي قطعا لا تخلو من القصور، ذلك أن الأدب العربي قد سبق الأوروبي إلى ميدان المقاومة، فهو حتى في جاهليته لم يكن بمعزل عن وجدان الأمة منصرفا عن احتياجاتها مقصراً في الذود عن قيمها. بل كان فكرها المدبر ولسانها المعبر يحدو مسيرتهــا، ويعبئ قواها، ويثر حماسها خاصة في الأوقات التي تتعرض فيها للهزائم العسكرية والهزات النفسية.
ونحن نعرف أن القبيلة في الجاهلية كانت تقيم الحفلات وتدق الطبول ابتهاجا بنبوغ شاعر، لأنه سيكون الناشر لأمجادها الذائد عن حياضها. وكان الشاعر إذا مدح قبيلة رفعها مكاناً عالياً رغم دنو منزلتها وقلة شأنها، وإذا هجا أخرى حط من قدرها وإن كان ذاهباً في أجواء السماء. ومرجع هذا طبيعة الكلمة العربية ذات الخاصية المتفردة، فهي إذا ما صيغ منها شعر موزون أو نثر مسجوع فعلت في النفوس فعل السيف في
ولما جاء الإسلام بما خالف عليه العرب في حياتهم الدينية والاجتماعية وجد الشعر نفسه أمام معركة لم يلبث أن حدد فيها دوره وأخذ مكانه، وأعلن التزامه، فكان أحد الأدوات الحربية والوسائل النضالية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحض حسان بن ثابت على قول الشعر رداً على المشركين، وكان يخبره أن شعره أشد عليهم من وقع النبال، ويدعو له: “اللهم أيده بروح القدس”[1]
وظل الشعر يواكب مسيرة الأمة في عصورها المختلفة، يتغنى بنصرها ويستعرض مواقف المجد والبطولة في تاريخها، ويستنهض هممها، ويحرك مشاعرها وينعى عليها تخاذلها وقعودها عن جهاد العدو المتربص بها الطامع في أرضها.. وهكذا مضى هذا التيار الهادر حتى وصل مداه في الأندلس.
ونعني به هنا الشعر الذي أنشئ أيام الحرب الإسلامية المسيحية التي دارت رحاها في جزيرة الأندلس ، وكما عرفنا آنفا بأن الأدب العربي حتى في جاهليته لم يخل من شعر المقاومة إلاً أنه لم يكن بالتوسع والعمق اللذين نجدهما في الأدب الأندلسي، ولعله مما أكسبه ذلك طبيعة الأحداث التي جرت في منطقته ، إذ أن الأمة الإسلامية لم تعرف في تاريخها الطويل نكبة كتلك التي وقعت في أندلسها ، ورغم ما وقع في مشرقها من حروب التتر والمغول والصليبيين إلاً أنها استطاعت أن تنتصر على هؤلاء جميعا ، وأن تخرج من تلك النكبات وهي أقوى عوداً وأمضى عزما وأشد مراساً بينما لم تستطع ذلك في الأندلس ، فقد تقلص هناك ظلها ، وطويت رايتها، وأفلت شمس وجودها، فلا عجب إن كان الشعر الأندلسي أكثر بكاء وأحر ندبا وأشد حرقة وأعلى صوتا وأعمق أثرا في استنهاض الهمم وتحريك المشاعر حتى شعرهم الرثائي لم يكن خلواً من المضامين النضالية والصرخات الإنذارية والإشراقات الوطنية فقد كانوا طوال فترة الحرب يعبئون الجهود ، ويشحذون العزائم ، وهم يرْثون المدن الضائعة ويبكون جمالها الذاهب ، وقد فطن بعض الكتاب لهذا : ((.. ولم تسقط مدينة في يد مسيحي الشمال إلا بكوها، وتفجعوا عليها تفجعا حاراً، وهو تفجع كانوا يضمنونه استصراخاً للمسلمين في مغارب الأرض ومشارقها لعلهم يستنقذون تلك المدن من براثن الأسبان، ويستعيدونها إلى حضيرة الإسلام قبل أن تدك هناك كل صروحه، وتسقط
كل رايته وأعلامه))2
وقد توسع مدلول المقاومة عندهم فشمل الدعوة إلى الثورة على الملوك الذين خضعوا لملوك النصارى، واستعانوا بهم على إخوانهم في العقيدة والوطن، كما شمل محاربة المنكرات الفاشية والمفاسد البادية بحسبانها سبب الضعف والهلاك ، وشمل كذلك الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله ومقاومة العدو المغير ، كما شمل أيضاً البحث عن قيادة رشيدة تجمع شمل الأمة ، وتمضي بها في عزم وثبات ، ولا ننسى القصيدة المادحة التي مجدت الأبطال ، وتغنت بانتصاراتهم وقد استعانت في نقل التجربة وتكثيف العاطفة بالمعنى الحي والكلمة المؤثرة والصورة المعبرة التي تستلفت النظر ، وقد ارتفع صوت هذا الشعر حتى جاوز حدود الأندلس الجغرافية فشّرق وغرّب مستنجدا مستنهضاً.
ــــــــــــــــــــــــــ
(2) الفن ومذاهبه في الشعر العربي، شوقي ضيف، ط 6 القاهرة، 1965م.
وقد أحببنا في هذا البحث أن تقف عند بعض ضروب المقاومة التي ألمحنا إليها آنفاً، وذلك على سبيل المثال لا الحصر، إذ أن تتبع جزئياتها والإلمام بها يحتاج إلى جهد متصل وبحث طويل.
وختاماً أرجو من الله عز وجل التوفيق في كتابة بحثي هذا وهو ولي التوفيق.
نماذج من الشعر الاندلسي في شعر المقاومة
أولاً: نموذج من قصيدة للشاعر الأندلسي خلف بن فرج الألبيري في حكام غرناطة.
يقول الألبيري في حكام غرناطة:
ناد الملوك وقل لهم ماذا الذي أحدثتموه
أسلمتم الإسلام في أسر العدا وقعدتمو
وجب القيام عليكمو إذ بالنصارى قمتمو
لا تنكروا شق العصا فعصا النبي شققتمو3
فالشاعر هنا يعلنها ثورة على هؤلاء الحكام الذين فرطوا في الدفاع عن الإسلام وخذلوه حين أسلموه للأعداء برضوخهم لهم، فتخلوا عن قيمه، وقعدوا عن حمايته، وقد مضوا في هذا الطريق الخطر إلى غاية ما بعدها إلا العثور وذلك حين استعانوا بالنصارى بعضهم على بعض في عراكهم الذي هو غير معترك، ومن أجل ذلك وجب مقاومتهم وشق العصا عليهم، لأن طاعتهم والتسليم لهم سيقود حتما إلى نهاية أليمة وعاقبة مخزية وخيمة. والشاعر هنا يبرر الخروج على الملوك بأنهم أحدثوا في الإسلام حدثاً، وأنهم سلموه للأعداء، وقعدوا عن نصرته وأنهم عصوا رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذه كلها براهين يسوقها لتأييد قضيته وتدعيم دعوته ووجاهة فكرته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3) انظر، تاريخ الفكر الأندلسي، ترجمة حسين مؤنس، القاهرة 1955م ، ص113.
وقد تناول الألبيري المنكرات، فشدد النكير على مرتكبيها مبيناً مضارها وخطورة انتشارها.
ثانياً : نموذج من شعر المقاومة عند سقوط طليطلة في يد الإسبان :
قال أحد الشعراء عند سقوط طليطلة، في يد الأسبان عام 478هـ:
فإن قلنا العقوبة أدركتهم وجاءهم مـــن الله النكير
فإنا مثلهم وأشد منهــم نجور وكيف يسلم من يجور
أنأمن أن يحـل بنا انتقام وفينـا الفسق أجمع والفجور
وأكل للحرام ولا اضطرار إليه فيسهل الأمــر العسير
يزول الستر عن قوم إذا ما على العصيان أرخيت ال ستور4
إن نكبة طليطلة لم تأت صدفة، بل تقدمتها أسباب مهدت لها، وساقت إليها، من تلك الأسباب ما ذكره الشاعر في أبياته المتقدمة، وكما هو واضح فإنا ما ذكره لم يكن قاصراً على طليطلة منتشرا بين أهلها وحدهم وإنما هو عام في كثير من الأقاليم والمدن، ولو أن المسلمين هناك وعوا الدرس لعادت نكبة طليطلة ربحاً لبقية مدن الأندلس، ولكنهم استمرأوا ارتكاب المنكرات من فسق وفجور وأكل للحرام من غير اضطرار، ومن تجرؤ على حدود الله وارتكاب للمعاصي في السر والعلن، فلا عجب إن عمت مصيبتهم ونزلت من سماء الأندلس رايتهم.
ولا شك أن مقاومة هذه الأمراض الاجتماعية التي تفتك بالأمة أمر تحتمه المحافظة على جسم الأمة صحيحاً وروحها قويا وعزمها صلبا حديداً فذلك أدعى لصمودها أمام من عاداها وردٍ سهام من رماها. وكان الشعر يدعو إلى الجهاد ، ويرغب فيه ذاكراً ما أعد للمجاهدين من أجر عظيم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Discussion about this post