بقلم الباحث محمد عبدالكريم الدليمي
كَانَتِ الْعَرَبُ وَمَا زَالُوا يَـحْكُمُهُمْ عِلْمُ الْأَنْسَابِ حَتَّى نَجِدَ الْإِنْسَانَ الْعَرَبِيَّ يَفْتَخِرُ بِنَسَبِهِ وَأُصُولِهِ الْعَرَبِيَّةِ فِي كُلِّ مَحْفِلٍ يَجْتَمِعُ فِيهِ النَّاسُ؛ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ أَمَانِيهمْ لِلتَّفَاخُرِ بِالنَّسْلِ الْعَرَبِيِّ، وَقَدْ خَصَّ اللهُ سُبْحَانَهُ النَّسْلَ الْعَرَبِيَّ عَنْ بَاقِي الْأَنْسَالِ فِي اخْتِيَارِ صَفْوَتِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ؛ وَسَبَبُ ذَلِكَ يَعُودُ إِلَى رُقِيِّ هَذَا النَّسْلِ وَبَيَانِهِ بَيْنِ الْأَنْسَالِ، فَهُوَ النَّسْلُ الْوَحِيدُ الَّذِي لَمْ يَرْتَكِبْ جَرِيمَةً أَوْ خَدِيعَةً أَوْ فَاحِشَةً، وَكَانَتِ الْعَرَبُ وَمَا زَالَتْ تَتَكَابَرُ بِالنَّفْسِ أَمَامَ النَّاسِ بِالْتِزَامِهَا الْأَخْلَاقِيِّ وَالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ، وَالِالْتِزَامِ بِالْمُحَرَّمَاتِ، وَالْمُقَدَّسَاتِ، نَجِدُ ذَلِكَ جَلِيًّا فِي أَخْلَاقِهِمْ، بُعِثَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، قَالَ:( إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ) وَالْأَخْلَاقُ عِنْدَ الْعَرَبِ سِمَة لَهَا خُصُوصِيَّة لَا بُدَّ مِنْ قِيَامِهَا فِي كُلِّ شَخْصٍ، فَكَانَ الِاخْتِيَارُ مِنْ قِبَلِ اللهِ سُبْحَانَهُ يَقَعُ عَلَى هَذَا النَّسْلِ، لِيَحْمِلَ رِسَالَتَهُ إِلَى الْإِنْسَانِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ حَامِل الرِّسَالَةِ عَلَى قَدْرٍ عَظِيمٍ عِنْدَ اللهِ، وَاللهُ يُحِبُّ كُلَّ جَمِيلٍ.
اِخْتَارَ سُبْحَانَهُ هَذَا النَّسْلَ لِيَكُونَ حَامِل الرِّسَالَةِ النَّقِيَّةِ اَلْمُكَرَّمَةِ عَالِيَة الْمَنْشَإِ صَفْوَة الْبَيَانِ، إِلَى الْإِنْسَانِ وَهَذِهِ الرِّسَالَةُ الْعَبِقَةُ اَلْمُكَرَّمَةُ وَأَعْمَالُهَا تُوَرَّثُ بَيْنَ خُلَفَاءِ الرُّسُلِ مِنْ أَبْنَاءٍ( ذُكُورٍ ) وَتَعَارف ذَلِكَ بَيْنَ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيل، وَلَمْ يَتَعَارَفْ هَذَا الْأَمْر الْجَلِيل بَيْنَ أَنْبِيَاءِ الْعَرَبِ مَعَ الْعِلْمِ وَهُوَ مَعْلُومٌ لَدَى الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ أَنَّ نَسْلَ الْأَنْبِيَاءِ اَلْعَرَبِ وَبَنِي إِسْرَائِيل وَاحِدٌ مِنْ النَّبِيِّ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ عُرِفَ النَّبِيُّ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ اَلسَّلَامُ بِمَكُّوكِيَّتِهِ الْعَظِيمَةِ بَيْنَ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَالْأَعْرَابِ، وَبَنِي إِسْرَائِيل، خَرَجَ مِنَ الْعِرَاقِ وَهُوَ مِنْ مَدِينَةِ أُورْ عَاصِمَةِ حَضَارَةِ سُومَر وَكَانَ مَلِكُهَا فِي زَمَنِهِ النَّمْرُودُ أَعْظَم مُلُوكِ الْأَرْضِ فِي حِينِهِ وَمَا تَلَتْهُ مِنَ الْقُرُونِ، وَكُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَلِكُ الَّذِي يُوَلَّى عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ الْعَظَمَةِ وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ عَظَمَةِ الْإِيمَانِ وَعَظَمَةِ الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ.
خَرَجَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِيَبْدَأَ مَكُّوكِيَّتَهُ بِفَضْلِ اللهِ وَطَاعَتِهِ؛ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ لِيَبْدَأَ عَمَلَهُ الْأَوَّلَ وَهُوَ بِنَاءُ مَكَّةَ وَرَفْعُ قَوَاعِدِهَا فِي وَادٍ غَيْر ذِي زَرْعٍ، وَمِنْ ثَمَّ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لِيَبْنِيَهُ أَيْضًا وَلِيُبَلّغَ الْقَبَائِلَ الْعَرَبِيَّةَ بِأَنْبِيَائِهَا الَّذِينَ سَيَلْحَقُونَ بِهِمْ مِنْ صِفَةٍ وَاسْمٍ وَكِتَابٍ أَوْ صَحِيفَةٍ، وَفِي طَرِيقِ مَكُّوكِيَّتَهِ يُخْبِرُ قَبَائِلَ الْأَعْرَابِ أَيْضًا عَنْ أَنْبِيَائِهِمْ وَاللّحَاقِ بِهِمْ، وَكَذَلِكَ مَرَّ بِقَوْمِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَخْبَرَهُمْ بِأَنْبِيَائِهِمْ وَأَسْمَائِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ وَكُتُبِهِمْ وَصُحُفِهِمْ، فَنَجِدُ ذَلِكَ بَيَّنَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي قُرْآنِهِ مِنْ آيَاتٍ تُحَدِّثُنَا بِتَفَاصِيل مَا كَانَ وَمَا حَدَثَ فِي تِلْكَ الْحِقَبِ مِنَ الزَّمَانِ.
وَوَرِثَ الْأَنْبِيَاءُ النُّبُوَّةَ وَكَانَتْ فِي نَسْلٍ وَاحِدٍ فِي عَائِلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ النَّسْلِ الْعَرَبِيِّ اتَّصَفَ بِصِفَتِهِ وَنَقَائِهِ وَبَيَانِهِ، وَلَا يَهمُّ أَنَّهُ يُرْسِلُ لِقَوْمٍ غَيْرِ عَرَبِيٍّ فَبَنِي إِسْرَائِيلَ نَسْلٌ أَفْرِيقِيٌّ سَكَنُوا أَرْضَ الْعَرَبِ وَكَانَ أَوَّلُ أَنْبِيَائِهِمْ إِسْحَاق عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمِنْ ثَمَّ يَعْقُوب وَمِنْ بَعْدِهِ الْأَسْبَاط وَيُوسُف عَلَيْهِمُ اَلسَّلَامُ، وَكَانَ دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَغَيْرُهُمْ كُلُّهُمْ رُسُلٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا نَسْلُهُمْ وَأَصْلُهُمْ عَرَبِيٌّ غَيْرُ نَسْلِ قَوْمِ بَنِي إِسْرَائِيل الْأَفْرِيقِيّ، وَكَذَلِكَ عِيسَى عَلَيْهِ اَلسَّلَامُ مِنْ صَفْوَةِ النَّسْلِ الْعَرَبِيِّ فَقَوْلُهُ: (لِأَهَب لَك) أَيْ اخْتَرْنَاهُ مِنْ صَفْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ الْوَاحِدَةِ، وَطَرِيقَةُ حَمْلِهَا وَوَضْعِهَا كُلُّهَا كَانَتْ آيَةً وَمُعْجِزَةً مِنَ اللهِ سُبْحَانَهُ. وَكَذَلِكَ مَا كَانَ لِلْعَرَبِ مِنْ أَنْبِيَاء وَمِنَ الْمُؤَكَّدِ أَنَّ الْعَرَبَ بِصَفْوَةِ نَسْلِهِمُ الْعَرِيقِ وَأَخْلَاقِهِمُ الْفُضْلَى لَا يَحْتَاجُونَ لِهَذَا الْكَمِّ اَلْكَبِيرِ مِثْل مَا كَانَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالنُّبُوَّةُ سَوَاءٌ كَانَتْ لِقَوْمِ الْعَرَبِ أَمْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَهِيَ تُوَرَّثُ فِي نَسْلٍ وَاحِدٍ صَفْوَة النَّسْلِ الْعَرَبِيِّ سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِالْمِيرَاثِ وَاحِد تِلْوَ الْآخَرِ أَمْ مُنْقَطِعَة عَنْهُ فَهِيَ بَاقِيَةٌ فِي عَائِلَةِ النُّبُوَّةِ لَا يَشُوبُهَا شَائِبَةٌ وَلَا يُفَرِّقُهَا أَمْرٌ وَلَا تَنْدَثِرُ الْبَتَّةَ .
لَا يَعْلَمُ اَلنَّاسُ أَيْنَ مَوْضِعُ رِسَالَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ فِي الْبَشَرِ مَهْمَا اعْتُنِيَتْ بِعَائِلَةِ الرُّسُلِ وَأَنَّ فَرْض هَذَا عَلَيْكَ مِنَ الْمَعْلُومِ ، فَإِنَّ الله أَخْفَى أَمْرَ الرِّسَالَةِ فِيمَا كَانَ مِنْ عَائِلَةِ الرُّسُلِ الْكَرِيمَةِ، بَعْدَ أَنِ اخْتَلَطَتِ الْأَنْسَالُ وَظَهَرَتِ الْفِرَقُ وَالْقَبَائِلُ بِمُسَمَّيَاتٍ جَدِيدَةٍ، فَكَانَ ذَلِكَ فِي خِدْمَةِ نَسْلِ اَلْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالْحِفَاظِ عَلَيْهِمْ اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى جَمِيعِ أَنْبِيَاءِكَ وَرُسُلِكَ وَعَلَى جَمِيعِ آلِـهِمْ وَأَصْحَابِهِمْ أَجْمَعِينَ.
Discussion about this post