الدولة ومعايير الهوية
المحاولات المتكررة من القوى الخارجية في استهداف زعزعة أركان الدولة في البلدان التي لا تسير وفق الاجندات المحددة لها متعددة والشواهد كثيرة منذ العهد الاستعماري الى حاضرنا المعاصر ، وقد بلغت غطرسة اسرائيل واستكبارها مداها الاعظم في مسيرة الأعلام بالقدس وتنقيبها عن النفط والغاز لسرقته من ” حقل كاريش ” بالمياه الاقليمية اللبنانية والقصف التواتري على اهداف في سورية وآخرها قصف مطار دمشق الدولي في رهانات خاسرة لكسر وتقويض الدولة السورية ، مردها في بعض أوجهها تصفية حسابات مع الحليفين الايراني ( التأزم في الملف النووي ) والروسي ( حرب اوكرانيا وزيلينسكي ) على الارض السورية .
يأتي ذلك في ظل غياب رأي عام دولي واقليمي وعربي واضح لفضح ووقف انتهاكات وممارسات اسرائيل التي تعبث بسيادة الدول متحديةً القانون الدولي والنصوص التي حددتها الأمم المتحدة ومواثيقها بما يشكل تهديداً حقيقياً للأمن والاستقرار والسلام العالمي .
الحقيقة الصادمة أن الخسارة في هذه الاستهدافات هي خسارة جولة وليس خسارة حرب ، ولكننا يجب ان نقف أمام بعض الخلاصات والدروس المستفادة لاضافة قدراً أعلى من العقلانية في الخطاب ومزيداً من الحكمة في الممارسة ، وهذا يتوجب تحسين أداء المؤسسات في الاستعداد للمواجهة اذا كان لا بد منها تعقيباً على عدم انصياع الكيان الصهيوني لقرارات مجلس الأمن الدولي ومبادرة السلام العربية وحل الدولتين وجميع القرارات الأممية ذات الصلة باعادة جميع الاراضي العربية المحتلة
في ظل تغير وتبدل قواعد الاشتباك الذي تمارسه اسرائيل من أجل هدم الدول وإضفاء سيطرتها المطلقة .
إن الانقسام المتمادي في السياسة والجغرافيا والمصالح الدولية العميقة التي نمت بها دولة الاحتلال يدفعها الى انتهاك سيادة الدول وغصب الحقوق العربية في غياب أي ردود أفعال من قبل المجتمع الدولي ومجلس الأمن .
ولعلها قاربت خطواتها بعد صمت العالم ومشاركة بعض دوله الكبيرة في هدم وتحطيم كيانات الدولة ومؤسساتها في العراق وافغانستان واليمن وليبيا … مما ساعد ودفع بظهور تنظيمات ارهابية عديدة أهمها داعش بدلاً من القضاء على الارهاب الذي كان مسوغاً للاحتلال الامريكي والتركي والتدخل الغربي …
في المقابل نجد إهمال بائس للأمور الفكريّة أو للمؤسّسات المهتمّة بالفكر والثقافة، حيث أضحت أولويات المرحلة بالنسبة لانظمة الحكم في منطقتنا هي للأمور الحركيّة والحلول الاسعافية للمعضلات المتضخمة دون الاهتمام في قضايا التفكير والتنظير ، وفي أفضل الحالات الاكتفاء بطرح الفكر دون المساهمة في بناء المؤسّسات القادرة على تحويل الأفكار إلى برامج عمل تنفيذيّة .. إن الفكر هو الذي يحدّد الأهداف المرجوّة من أيّ عمل، وهو الذي يصنع وضوح الرؤية خلال مسيرة تنفيذ برامج العمل. لكن لا قيمة للفكر إذا لم يعالج عمليّاً مشاكل قائمة ويبقى أسير الكتب وعقول المفكّرين. فالقيمة الحقيقيّة لأي فكرة تتحصّل من مقدار تعاملها مع الواقع ومشاكله والقدرة على تغييره نحو الأفضل .
لتجاوز تشابك القضايا والأحداث، واختلاف الأولويّات والاهتمامات لدى أبناء البلد الواحد ، من حيث وجود عناوين مشتركة لهذه القضايا مثل: الإصلاح السياسي ، بناء العقد الاجتماعي أو إعادة تنظيمه وتحديثه مع مواكبته للأبعاد الاقتصادية ، التخلّف الاجتماعي والركود الاقتصادي ، ملفات الفساد ومعالجتها ، تحدّيات الأمن والسلم الأهلي والاستقرار الاجتماعي ، اللامركزية والادارات المحلية ، الحفاظ على الوحدة الوطنية والنسيج الوطني المشترك ، الهوية الوطنية الجامعة ، المواطنة والمساواة ، الديموقراطية وحقوق الانسان .. على ألا يخفى للجميع وجود مشكلة الاحتلال الإسرائيليّ ودور القوى الإقليمية والدولية في صناعة أو توظيف أحداث وصراعات المنطقة .
لكنّ في كلّ هذه القضايا والتحدّيات، هناك حاجة لمجموعة من المفاهيم والضوابط التي ترشد الحركة في معالجة ومواجهة أيٍّ منها ، مع ضرورة التمايز بين تغيير الحكومات وبين تفكيك الكيانات ، فالخلط بين النظام والكيان هو خطر على الوطن كلّه.
وكذلك التمييز بين الطائفة والمذهب والقومية وبين الطائفية والمذهبية والانفصالية فالحالة الأولى هي ظاهرة طبيعية إنسانية موجودة في أكثر من مجتمع يقوم على التعدّدية. أمّا الحالة الثانية، فهي ظاهرة مرَضيَة تؤدّي إلى تفكّك المجتمع وضعفه وانقسامه، وإلى تبرير التدخل الأجنبي . “إن روح التآزر المبنية على التنوع ليست فقط غاية في حد ذاتها ولكنها وسيلة للعمل لإحداث التحول اللازم في المجتمع، فتنوع الأفراد ينعكس إيجابا على قدرات المجتمع ويثريه“
إن صناعة الانسان الواعي المتّحرر من المفاهيم الهشة القديمة التي لا تتواكب مع الحاضر من شأنها إعاقة نهوض وبناء المجتمع السليم .
وهذا يتطلب بقدر الاعتزاز بالوطنية المحلّية ، عدم الانعزاليّة الإقليمية التي لا تحقّق أمناً ولا تصنع وطناً قادراً على العيش في عصر التكتّلات العالمية الكبرى.
لعل من المفيد ايضاً التمييز بين الانتماء للهُوية العربية ،
تساعدنا معرفة هُوياتنا وهُويات الآخرين على فهم واحترام الآخر .. وعند اكتمال هذه المعرفة يمكننا تقدير تنوعنا والاستفادة من ثراء الخبرات التي نمتلكها
وبين تجارب الحركات القومية السياسية. فالعروبة هي انتماء ثقافيّ مشترك بين العرب كلّهم، وهي هويّة حضارية لكلّ أبنائها، في حين أنّ الحركات القومية هي سياسية لها مضامين فكرية وعقائدية كحال الحركات السياسية الدينية أو غيرها من الحركات العقائدية.
إن الحفاظ على الدولة ومؤسساتها يقتضي بالضرورة الشفافية والتشاركية السياسية والفكرية مع الاحزاب والمجتمع المدني ونخب المثقفين والاختصاصيين … وعدم الاكتفاء بالرأي الواحد ووجهات النظر ذات البعد الايديولوجي الأُحادي ، لخلق حالة وعي عام مسؤول يصب في خدمة متطلبات المجتمع وإنهاضه بعيداً عن الاحباط .
أما في سورية فإن ترسيخ الحل السياسي عير تنفيذ قرار مجلس الامن الدولي رقم 2254 بنكهة سورية تحافظ على وحدة الشعب والأرض السورية ، اضحى ضرورة اضافية .
في اجتماع وصف بالسري تم في لارنكا – قبرص الاسبوع الماضي من أجل تبادل المعلومات حول الوقائع السورية، وأفق السياسة الأوروبية تجاهها، وانعكاسات الحرب الأوكرانية ، عقد ممثلي الدول الاوروبية المعنية بالملف السوري اجتماعات متعددة وخلصت الى ان تركيا تعمل على تغيير المعادلات وقواعدها في الشمال السوري وأن الوضع السوري في حالة ستاتيكو قائم الى حين ظهور اختراق في الملفات الشرق أوسطية غير محسوب ، مع استمرار رفض رفع العقوبات والمشاركة في برامج إعادة الاعمار قبل وضوح الحل السياسي ، وتوقعات باستمرار خطوات تطبيع عربية ثنائية مع دمشق، وصولاً إلى القمة العربية في الجزائر (تشرين الثاني – نوفمبر 2022 ) لاتخاذ قرار عربي جماعي .
على المقلب الآخر في مرحلة التحولات والتغيرات والانقلاب على القطب الواحد لبناء تحالفات تعيد التوازن بعد فشل السيطرة الامريكية عسكرياً واقتصادياً ومالياً وسياسياً على العالم عبر منظومة مجهولة المعالم ، نسمع للمرة الأولى هذا الاسبوع تصريح حاد على لسان وزير الدفاع الصيني وي فنغ قائلاً ، إن الولايات المتحدة “مذنبة بتصعيد النزاع” في أوكرانيا ، ومضيفاً أن العلاقات والتعاون بين الصين وروسيا تتعزز ، ومشيراً الى أن الاستراتيجية الأمريكية في المحيطين الهندي والهادئ ستؤدي إلى المواجهة وأن تايوان كانت وستبقى صينية .
فيما أكد زعيم كوريا الشمالية للرئيس بوتين ” تغلب الشعب الروسي بشجاعة على جميع أنواع التحديات والصعوبات، وأصبح يحقق نجاحًا كبيرًا في تحقيق قضية عادلة لحماية الكرامة والأمن والتنمية في البلاد، والتي يقدم لها الشعب الكوري الشمالي دعمه الكامل ” .
لا بد لنا في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ البشرية على كافة المستويات الوجودية والعسكرية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية .. أن ننظر بعين اليقين والاصرّار على السلام المستدام عبر حل النزاعات بالحوار البنّاء لتعزيز الامن والاستقرار للكوكب والانسان بعيداً عن النرجسية والمغامرات الخطيرة على الحياة .
إن الناظر الى تأرجح الاوضاع الاوروبية من نافذة الوجدان الانساني الموضوعي والحرص على الاستقرار والسلام العالمي ، يستنتج أن أفول عصر الغرب كما توقع الرئيس الفرنسي في تصريح نُسب اليه قد يكون بسبب العقوبات الاقتصادية المتبادلة مع روسيا قد تقوده تدريجيا الى ركود يطول امده ، ويكون اقسى من ويلات الحرب .
لقد نهضت الدولة الوطنية الحديثة في أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية على وعدين رئيسيين لمجتمعاتها ” الأمن والحياد ” ، تعبيراً عن الرغبة المشروعة للشعوب الأوروبية في الاستقرار بعد حربين عالميتين ودمار شامل ، وكمحصلة لنقلة حضارية في رؤيتها لدور الدولة ومنطق إدارة علاقتها بالمجتمع ، وفشل المشاريع القومية المتطرفة ” نقاء العنصر وتفرد الهوية
وصاغت دساتيرها والقوانين الناظمة بحياد تام لحركة الأفراد والمجتمع وحقوقهم وواجباتهم ، بالرغم من تعدد الانتماءات الطبقية أو العرقية أو الدينية …
باتجاه مبادئ المواطنة والمساواة والحريات وقبول الآخر والديموقراطية وسيادة القانون
وباعتقادي أن ما يحصل حتى الآن “العسكرة والرهاب “
في الوقت الذي يجب أن يكون شعار القرن الحالي “التنمية والسلام المستدام “،
وهو سيطرح تساؤلات عديدة حول مفاهيم وقواعد كانت سائدة وأصبحت بحاجة للتغيير ، حيث تتشكل خلال واثناء الحرب تحالفات جديدة ومواجهات تتعدى الطبيعة السياسية للنظم والتشكيلات الاقتصادية ـ الاجتماعية لمكوناتها ، نتمنى ونأمل أن يصب في خدمة البشرية واستقرارها حفاظاً على الأمن والسلام العالمي .
وكما يقول أحد الشعراء ، وقد اصاب الحقيقة :
يعدو الزّمانُ فمن لم يعدُ مستبقا ..
أمامه ، ركلته أرجلُ الزّمن …
والى لقاء آخر …
مهندس باسل كويفي
Discussion about this post