قراءة نقدية:
“الومضة الشعرية والقرار الحاسم”
الشاعرة:الهام عيسى (سوريا)
الناقدة :جليلة المازني (تونس)
الومضة الشعرية:
****************************
أغلقت كل أشرعة الحنين.
وعاقبت نبضي بنحيب الصمت.
***************************
استخدمت الشاعرة في كل طرف من طرفي الومضة الشعرية جملة فعلية في صيغة الماضي والفعل فيهما مزيد (أغلقت / وعاقبت) يضفي الحركية و الفاعلية على الومضة الشعرية.
لقد استخدمت الشاعرة ضمير المتكلم المفرد (أنا) في صيغة الماضي(أغلقت/وعاقبت) للتعبير عن تجربة عاشتها واتخذت فيها قرارا.
انه قرار اغلاق كل أشرعة الحنين ومعاقبة نبضها بنحيب الصمت
والأشرعة مفردة جمع لشراع.
والشراع لغة “هوسطح مصنوع عادة من القماش ويتم نشره وتثبيته على صار حتى يأسر الرياح لغرض دفع قارب السفينة أو أي مركبة أخرى في الماء”(ويكيبيديا- شراع).
والشراع مجازا يرمُز الى السفر والحركة والتنقل.
والشاعرة هنا قد استخدمت “الأشرعة” مجازا حين أضافت اليها كلمة الحنين.
– هل أن الشاعرة قد أغلقت كل الأسباب التي تحرّك فيها الحنين؟
فأي حنين أغلقت أسبابه لتعطل العودة اليه والتفكير فيه؟
والحنين أو النوستالجيا هوعادة مرتبط بالماضي ومن وجهة نظرعلم النفس:
medicalnews dayوفقا لموقع
“ان النوستالجيا مصطلح يستخدم للتعبير عن الحنين الى الماضي أو العيش في الماضي وهي متلازمة تصيب الانسان الذي يحنّ دائما الى الماضي والعيش مع الذكريات بحيث يصبح الشخص المصاب بهذه المتلازمة يرى أن الماضي جميل
جدا بما فيه من أحداث أو علاقات ويرى أن الماضي كان أسهل وأبسط وأكثر متعة” (1)
وفي هذا الاطار يقول الاخصائي في الصحة النفسية الدكتور عمار التميمي:
انه “الحنين للماضي المثالي حيث الدفء والشعور بالأمان والتلاحم الأسري
والوجوه الجميلة بلا مساحيق”
وبالتالي هل أن الشاعرة الهام عيسى قدأغلقت كل أشرعة الحنين للماضي:
– هل انها أغلقت كل أشرعة الحنين ودون استثناء الى الماضي لان كثرة الحنين للماضي والافراط في ذلك يصبح حالة مرضية والشاعرة قد تريد التخلص منها .
انها في ذلك لاتخفي عنا وعْيها بالاقدام على ما تريده ايمانا منها بحكمة الله في مصابها الجلل وهو مصاب الفقد وموت مَنْ مَنحَها الحياة بعد الله وهوسرّ وجودها
انه موت الوالد (رحمه الله) الذي قصم ظهرها ومزّق صدرها لهول الفاجعة.
ولعلها تستفيق الآن بعد أربعينية الوالد ايمانا منها بقدرة الخالق على أنه أعطى ثم أخذ ولا ردّ على حكم الله ولعل هذا من مرجعية دينية.
– هل أنها أغلقت كل أشرعة الحنين ودون استثناء ومن مرجعية معقلنة وهي تدرك أن الحنين الى الماضي محكوم ببرودة اليأس.
انه اليأس من عودة الماضي الميثالي حيث نعيم الدفء والشعور بالأمان والتلاحم الأسري والوجوه الجميلة بلا مساحيق على حدّ قول أخصّائي الصحة النفسية “عمار التميمي”.
انه ماضي ميثالي لن يعود و قد قررت الشاعرة الحسم فيه باغلاق كل أشرعة الحنين اليه.
بيد أن القارئ قد يعتبر قرارها الحاسم في اغلاق كل أشرعة الحنين دون استثناء قد كان نتيجة حالة نفسية هي مزيج من الحزن والألم والاستسلام لحكم الله.
واليأس في هكذا حالة نفسية قد يظلم الانسان نفسه باتخاذ أيّ قرار حاسم دون الاخذ بعين الاعتبار الاستثناء والاستثناء تخضع له حتى القواعد العلمية.
قد يرى القارئ أن عبارة “كلّ” فيها اجحاف في حقها النفسي الذي قد تكون تعسّفت عليه لصالح واجبها الديني والعقلي.
قد يثير القارئ هنا ثنائية الحنين والشوق فلئن كان للحنين “برودة اليأس ” فان للشوق “حرارة الرجاء”
فقد يرى القارئ ان الشاعرة قد تحوّل برودة اليأس من عودة الجنة المفقودة التي كانت تعيشها مع الوالد بسبب فقدانه وقد تجعل حرارة الرجاء لاستعادتها ممكنة بجعل الجنة المفقودة مقياسا تقيس به كل نعيم تعيشه بعد فقدان جنتها( الوالد ).
وأكثر من ذلك فان الشاعرة لم تكن صارمة وحاسمة في قرارها باغلاق كل أشرعة الحنين فحسب وبالتالي لم تكن حاسمة لأمرها فيما يتعلق بالماضي بل هي أشدّ صرامة على حاضرها وحتى على مستقبلها.
انها عاقبت نبضها بنحيب الصمت.
ان العقاب كان ذاتيا فلاأحد سلّط عليها عقابا.والعقاب الذاتي أقسى وأمرّ لما يتبعه من جلد الذات.
ان الشاعرة عاقبت نبضها.
والنبض هو” سرعة دقات القلب أي عدد مرات انقباض عضلة القلب وانبساطها
في الدقيقة الواحدة ويمكن قياس النبض من الشريان الكعبري في معصم اليد او الشريان السباتي في الرقبة. تختلف سرعة ضربات القلب من شخص لآخر” (2)
و”أوضح الباحثون أن معاناة شخص ما من الاكتئاب أوالقلق أو التوترترفع معدل ضربات القلب وضغط الدم وتدفع الجسم لانتاج مستويات أعلى من هرمون التوتر(الكورتيزول).
وهي تأثيرات يمكن أن تؤدي الى مشاكل في القلب بمرور الوقت”(3)
وفي هذا الاطار هل عاقبت الشاعرة نبضها العادي الذي به تحيى وتموت؟
أم عاقبت نبضها الذي انتشر بكامل جسمها بسبب التوتر والاكتئاب؟
هل هي أسكتت أنفاسها بنحيب الصمت؟
والحديث عن نحيب الصمت هو حديث عن مفارقة عجيبة
فالنحيب يقتضي الصوت والصمت يقتضي انعدام الصوت
ونحيب الصمت هو صمت رهيب يفصح بأ صخب صوت
هنا قد يتدخل القارئ ليستحضر ما قيل في الصمت:
و”العقاب بالصمت هو عقاب نفسي يتم من خلال رفض التواصل اللفظي مع
شخص آخر بغرض توصيل رسالة معينة له.” (4)
و”الصمت يجعلنا مستعدين للقاء جديد مع الله ومن خلاله نمكّن كلمة الله من الوصول الى الجوانب الخفية في قلوبنا.
في الصمت تظهر كلمة الله أمضى من كل سيف ذي حدّين وخارقة حتى لمفرق
النفس والروح والله صامت ولكنه يتكلم” (5)
وبالتالي:
– هل ان الشاعرة الهام عيسى عاقبت بنحيب الصمت نبضها المتسارع نتيجة التوتر والحالة النفسية التي تعيشها بسبب الفقد تجنبا للتواصل مع الآخر الذي قد يزيد في توترها؟.
– هل هي عاقبت نبضها بنحيب الصمت لتمكين كلمة الله من الوصول الى الجوانب الخفية في قلبها لتعالج وجعها بحكمة يقذفها الله في صدرها ايمانا منها بان الله صامت وهو يتكلم.
وفي هذا السياق قد يتحول العقاب من سلبي الى عقاب ايجابي يعيد للشاعرة وَسَطيّتهَا في تحديد مشاعرها وتعديلها وتنمية الوعي الذاتي ازاء مصابها حاضرا ومستقبلا.
وبالتالي هل الصمت قوة أم ضعف؟:
في عالم مليء بالضجيج نقف على العديد من فوائد الصمت منها:
تهدئة الافكار المضطربة/تنمية الوعي الذاتي/ تخفيض ضغط الدم/تخفيف التوتر/
تحسين جودة النوم/ تقوية التركيز/تعزيز الابداع/تنمية مهارات الاستماع/…
وبالتالي يمكن القول بأن الصمت قوة في هكذا ظروف تعيشها الشاعرة من لوعة الفقد والفراق لجنتها المفقودة.
يقول نجيب محفوظ:” هناك كلام لا يقول شيئا وهناك صمت يقول كل شيء..
الصمت نعمة لا يُتقنها الا العقلاء ولا يُمارسها الا الحكماء..فالصمت دليل
قوّة لا ضعف”(6).
والشاعرة الهام عيسى قد اختارت العقلانية بما فيها من حكمة.
شكرا للشاعرة الهام عيسى العقلانية والحكيمة في هذه الومضة الشعرية.
(لروح والدها الرحمة والسلام).
بتاريخ 13/09/2024
المراجع:
https://machahid.info>…(1)
الحنين الى الماضي او “متلازمة النوستالجا”..
https://www.mayoclinic.org>art-2..(2)
كيف تقيس نبضك(مايو كلينك)
https://www.aljazeera.net>lifestyle(3)
الاكتئاب قد يسبب أمراض…
https://www.aljazeera.net>..11/2021(4)
“العقاب بالصمت”
https://www.taize.fr>ar-article1445(5)
قيمة الصمت
https://wakebeconomic.com>..(6)
هل الصمت قوة أم ضعف؟- صحيفة واكب الالكترونية.
Discussion about this post