الشّاعر محمد بودلاعة رئيس فرع المنتدى العشرة، وعضو جمعية أدباء النّهضة، وهو أحد الأصوات الشّعرية البارزة في مدينة قلعة السّراغنة بالمغرب. يُعرف بإسهاماته المتواصلة في إثراء المشهد الثّقافي المحلّي، من خلال مشاركته الفعّالة في العديد من التّظاهرات الأدبيّة والمبادرات الهادفة إلى تعزيز ثقافة القراءة والإبداع.
من بين أبرز أعماله ديوان “زوايا الظّلّ”، الّذي تمّ توقيعه في مناسبات ثقافيّة مختلفة، منها دار الثّقافة بقلعة السّراغنة والسّجن المحلي، وذلك في إطار الاحتفال باليوم العالمي للكتاب واليوم الوطني للقراءة . كما شارك في المعرض الجهويّ السّادس للكتاب، حيث تمّ توقيع ديوانه “إيماءات” ضمن فعاليات “ليلة الإبداع” .
إلى جانب ذلك، ساهم بودلاعة في مبادرات تهدف إلى تحبيب القراءة للنشء، مثل مشاركته في قافلة “أجي نقراو” الّتي حلّت بقلعة السّراغنة . كما كان له حضور مميّز في الصّالونات الأدبيّة الّتي نظّمتها جمعية أدباء النّهضة، حيث أُشيد بدوره في تنظيم واستقبال الضّيوف .
يُعتبر محمد بودلاعة من الشّعراء الّذين لا يكتفون بكتابة القصيدة، بل يُحوّلونها إلى نشيد ينبض بالحياة، ممّا يعكس عمق تجربته الشّعريّة وارتباطه الوثيق بالواقع الثّقافي والاجتماعي ، وهذا مقطع من كتاباته قصد التّعرّف عليه شيئا ما قصيدة تحت عنوان ” بعض من تعب” ديوان .. زوايا الظّلّ ..
الصفحة .. 40 ..
..
متعب الخطى
تعصف بي قرابين الهوى
إلى انحدارات في ظلام مكتمل العناق
أذرف دمعة على بعد الموت
أقصد مثواي في ظلّ سكوني
أركع حيثما أنا
لمن تسلّقت سلّم جسدي
دون أن تترك أثرا
أو تطفئ نارا
أوقدها الحنين .
تنفتّح على عتبة تأمليّة تمهد لعالم داخلي مشحون بالوهن والوجد، حيث يقول الشّاعر: “بعض من تعب .. متعب الخطى” هذه الجملة القصيرة تفيض بطاقة شعوريّة مكثّفة، وتشتغل بلاغيًّا على التّكرار البنائي الّذي يُحوّل التّعب من حالة جزئيّة إلى كيان متكامل يثقل الحركة، فتبدو الخطى كأنّها تعبير جسديّ عن انكسار داخليّ، بلاغة الإيجاز هنا تتجلّى في تحويل الكلمات القليلة إلى دفق وجداني يختزل تجربة وجوديّة بأكملها،
يأتي بعد ذلك تفجير للصور ضمن منحى رمزيّ ينفتح على أفق الأسطورة والتّضحية، حين يقول: “تعصف بي قرابين الهوى إلى انحدارات في ظلام مكتمل العناق”. القرابين، في بعدها المجازي، تؤول إلى المشاعر أو الذّات نفسها الّتي تُقدّم حبًّا، لكنّها لا تُكافأ إلّا بالتّيه والانحدار، والتّعبير بـ”تعصف” يمنح الهوى طابع القوة العمياء، قوة تجرّ لا تهمس، تأخذ ولا تمنح. أمّا “ظلام مكتمل العناق” فهي عبارة مشبعة بالغموض الجميل، تمنح الظّلمة ملمسًا حميميًّا، وكأنّ الشّاعر بلغ من الإلفة مع ألمه حدّ الاحتضان، فتصبح العتمة مأوى، والعناق لا يتمّ في النّور بل في قاع السّكون، وحين نصل إلى قوله : “أذرف دمعة على بعد الموت”، ندخل عالمًا من الشّفافية المكثّفة، حيث البلاغة تقوم على المفارقة الزّمنيّة. البكاء لا يحدث قبل الموت أو في حضرته، بل بعده، ما يعطي للدعابة الحزينة بعدًا وجوديًّا، كأنّ الذّات تتأمّل ذاتها من مسافة ما بعد الفناء، في نوع من الحضور اللاحق، أو النّدم المتأخّر، وهي صورة شاعريّة عميقة تؤثّث النّصّ بهدوءٍ يتنافى مع الألم لكنّه لا ينفيه.
ثمّ تتوالى صور الانسحاب والهدوء الدّاخلي في عبارة: “أقصد مثواي في ظلّ سكوني أركع حيثما أنا”. هنا تتحوّل الكتابة إلى طقس رمزيّ. “مثواي” تعني استقرارًا نهائيًا، لا يحمل بالضرورة دلالة الموت، بل الرّاحة الأخيرة، بينما “ظلّ سكوني” ّيوحي بأنّ هذا السّكون ليس ظاهرة عابرة، بل له ظلّ، أيّ امتداد وتجذّر. أما “أركع حيثما أنا” فهي جملة بالغة التّأثير، تحمل انكسارًا داخليًّا لا يحتاج إلى سبب أو مسرح، فالمكان لم يعد مهمّا، إذ أنّ الذّات تفرّغت من رغبة الحركة، فصار الرّكوع فعل وجود، لا ظرف عبادة، بل تكثيف لحالة داخليّة من التّسليم.
تبلغ القصيدة ذروتها البلاغيّة في المقطع الختامي: “لمن تسلّقت سلّم جسدي دون أن تترك أثرا أو تطفئ نارا أوقدها الحنين” صورة مبتكرة، تنحت الجسد ككيان له درجات، كأنّه معمار روحي، و”التّسلّق” فعل يشي بالاقتراب والنّيّة، لكنّه لم يخلف أثرًا، ما يدلّ على علاقة عابرة أو روح لم تكتمل في الحضور، أمّا “النار” فهي نار الحنين، لا نار اللقاء، مما يعمّق من جمالية الصّورة، حيث الغائب يحترق في القلب أكثر من الحاضر، والغياب يترك جرحًا أشدّ من الفعل.
البلاغة هنا لا تقوم على الفخامة اللفظية أو الزّخرفة الشّكليّة، بل على تكثيف المعنى، واستدعاء صور غريبة مألوفة في الآن نفسه، تبني جسرًا بين الحزن الشّخصيّ والحزن الإنسانيّ، بين الجسد والرّوح، بين الحبّ والانطفاء. فالنّصّ يتنفّس من داخل تجربة إنسانيّة صامتة، تتكلّم بالهمس وتصرخ بالرّمز، وهو ما يجعل القصيدة نثرًا مشعًّا بالشّعر.
للاإيمان الشباني
Discussion about this post