نص ورؤية..
محمد جمال ريحاوي.
كتبت الصحافية / د. دعاء محمود
فاصلةٌ منقوطةٌ؛
في أوجِ نشاطي وارتياحي، تَزيّنتُ بأروعِ الثِّيابِ، تَعطّرتُ، لَبِستً خاتمي ذا الفصِّ الأرجوانيّ القاني ـ كان قد اشتراهُ لي منذُ زمنٍ مَضَى حِينَ أعجبنِي ـ استقلّيتُ سيّارتي الّتي طالما حاربتُ حتّى حصلت عليها؛ فمكانُ عملي بعيدٌ جدًّا عن بيتي، أدرتُ المِذياعَ ـ إذاعةُ القرآنِ الكريمِ تنعشُ صباحي ـ قهوتي بجانبي، أقودُ مبتسمةً، لأوّلِ مرّةٍ أشعرُ بفاصلٍ في حياتي.
يومي أصبح هادئًا جميلًا مستقرًّا لأكبرِ حدٍّ، فقد نسيتُ حقًا. انْجلى الحزنُ من داخلِي، وفتحتُ بابًا على الحياةِ، تجاوزتُ عينيهِ الجريئتينِ اللامعتينِ الجذابتينِ، تجاوزتُ هيئتَهُ الوقورةَ، قامتَهُ الممشوقةَ، وعنفوانَ شبابِه. تجاوزتُ كلماتِهُ، صوتَهُ، حنانَ قلبِه، ولمسةَ يديه. تجاوزتُ الحضنَ الدَّافئ، الكلمةَ الّتي تخترقُ القلبَ، ونومتي على ذراعِه بأمانٍ تامٍّ.
عرفتُ بعد سنواتِ الحزنَ العميقَ، والألمَ الدَّفين ـ بعد تخلّيه عنِّي ـ أنَّني قادرةٌ على الحياةِ.
سيفُ تخلّيه عنَّي عَلَّمني أنّ الحياةَ لا تقفُ بوجه أحدٍ، أنّ خيباتِ عمري الّتي قضيتُ انتحبُها في المشفى؛ دواءٌ يقوّي ظهري، وأنّ جروحي الّتي لا يراها أحد؛ ترياقٌ اعادني للحياةِ. وأنَّ سنواتٍ من الدُّموعِ قادرةٌ على شفاءِ قلبي المهترئ.
أنا الآن ذاهبةٌ إلى عملي وأنا في قمّةِ نشاطي، وأوجِ حرّيّتي؛ رُغمَ أنَّه معي داخلَ عملي أراهُ كلَّ يومٍ؛ إلّا أنّ عقلي لا يبصرهُ؛ هيكلٌ فارغٌ من الكلماتِ لا ترجمةَ له داخلَ عقلي، كتابٌ ليس له غلافٌ قد طُمست أحرفُهُ، ذكرٌ كباقي ملايينِ الذُّكورِ لا أعرفهُ، وفاصلةٌ منقوطةٌ عَبرت بي إلى شاطئِ سعادتي.
الكاتبة الصَّحفية/ د. دعاء محمود
رؤية
“فاصلتكِ المنقوطة… كانت بوابةً للحياة“
بقلم/ محمد جمال ريحاوي
أستاذة دعاء،
قرأتُ نصكِ كما تُقرأ القصائد المكتوبة على جدران القلب. ولم تكن كلماتكِ مجرد حروف، بل كانت رحلةً كاملة من الانكسار إلى التجلّي، من الانطفاء إلى الاشتعال، من التخلّي إلى التخلّق من جديد.
لقد لبستِ صباحكِ بأناقةِ امرأةٍ تجاوزت الحزنَ دون أن تنكره. خاتمكِ ذا الفصّ الأرجواني لم يكن زينةً في يدك، بل كان رايةً تُرفع على قمة ذاتٍ استعادت سيادتها. وإذاعةُ القرآنِ الكريم التي أنعشت صباحكِ، كانت أكثر من صوتٍ عابر، كانت تميمةَ النجاة وسط صخب الحياة.
حين كتبتِ: “عرفتُ بعد سنواتِ الحزنِ العميقِ… أنني قادرةٌ على الحياة”، كنتِ تكتبين شهادة ميلاد ثانية لنفسك. لم تعودي تكتبين عنه، بل عنكِ أنتِ. عن المعنى الذي أعطته لكِ جراحكِ، عن الجدار الذي أنقذكِ حين سقط السقف.
هو الآن، كما قلتِ، “هيكلٌ فارغٌ”، و”كتابٌ بلا غلاف”، وذاك وحده كافٍ ليعلن أنكِ أنتِ الغلاف الجديد لقصتكِ. ما أبهى هذه الاستعارة، وما أصدق هذا الإدراك.
“فاصلةٌ منقوطةٌ” أستاذة دعاء، لم تكن ترقيمًا عابرًا، بل كانت قرارًا. كانت صفارة الإنذار التي أعلنت هدنةً مع الذاكرة، وانطلاقة نحو أرض جديدة، حيث لا أحد يُشبه أحدًا، ولا أنتِ تُشبهين تلك التي انكسرتَ يومًا.
ها أنتِ تقودين السيارة نحو العمل، لا لتصلي إلى المكان، بل لتؤكدي للعالم أنّكِ تعودين إلى نفسكِ، كما تعود المدن من الحرب إلى العمران.
كل امرأة قرأت نصكِ ستشعر أن في داخلها فاصلةً منقوطة، تنتظر منها أن تُعلن الحياة.
دعاء، نصكِ ليس قطعة نثرية… إنه مرآة امرأة استعادت وجهها.
Discussion about this post