“ طقوس الإنتظار في محراب العشق ” قراءة رومانسية و سيميائية حديثة في قصيدة (شوق وانتظار)”
للأديبة … مارينا أراكيليان أرابيان
النّاقد الدكتور … عبدالكريم الحلو
هذه القصيدة لايمكن أن تقرأ نقديّاً إلّا بأربعة أبعاد :
البعد الجندري
والرّومانسي
والسّيميائي
والفلسفي
أوّلاً : القراءة الجندريّة :
حين تفتح قصيدة “شوق وانتظار” ذراعيها أمامنا، لا تكتفي بعرض حالة من الهيام والانتظار، بل تدعونا إلى قراءة أعمق:
قراءة جندريّة تنبش تحت الكلمات لتسأل :
عن هويّة العاشقة
وموقع الأنثى داخل بنية الحبّ والغياب.
منذ مطلع النّصّ، تتجلّى الأنثى وهي تحمل قلبها كعناقيد عنب مترفة، تتدلّى من أهدابها:
“وميان الشّوق أمسى كالعناقيدِ
تدلّت من أهداب قلبي دررا”
هنا لا تظهر العاشقة ككائن سلبيْ ينتظر مصيره، بل كامرأة تمنح ذاتها الزّخم تُبدع في تحويل لهفتها إلى جمال مشهديّ، يصنع الوجد بدل أن يُستعبَد له.
الصّورة الجندريّة الأولى:
الأنثى ليست ضحيّة الحبّ، بل صانعة المعجزة العاطفيّة، تزرع من شوقها عناقيدَ، ومن صبرها بتلات، ومن لهفتها طقوسًا من نور.
وعندما تقول:
“وأسكن من بتلات الصّبر ذياك المنى”
“على أملٍ أن أشتاقكَ فيه ندّا”
تبرز فكرة الصّبر الأنثوي، لكن هذا الصّبر ليس خضوعًا، بل حيلة وجوديّة لصيانة الحبّ في وجه الغياب. الصّبر هنا ليس استسلامًا جندريًا بل ممارسة فاعلة لحماية الذّات والانتظار النّبيل.
الصّورة الجندريّة الثّانية:
المرأة هنا تمارس الانتظار كطقس سيادة روحيّة، كأنّها تقود المشاعر ولا تنقاد لها.
هي الّتي “تُعدّ الأيام” و”توقد المشاعل” و”تعزف على أوتار الشّوق”، أي أنّها تحتفظ بزمام العاطفة.
“لكم أقمت لك المشاعل شهدا”
“وكم أوقدت قناديل العمرِ
في محراب هواكَ”
كلمات “المشاعل”، “القناديل”، “محراب الهوى” ترسم صورة أنثى تقدّس العشق دون أن تفقد ذاتها. هي لا تحترق بالنّار بل تشعلها، تضيء ولا تذوب.
الصّورة الجندريّة الثّالثة:
في المقطع الختامي حين تتداعى “الناعسات” مرددات “هيت لك”، نجد انعكاسًا ثقافيًّا جندريًّا لطاقات الأنثى الجمعية: العشق الفردي يصبح طقسًا جماعيًّا.
لكن حتّى هنا، لا تذوب العاشقة في الجمع، بل تظلّ محور الاحتفال، والفاعلة الأساسيْة فيه.
خلاصة القراءة الجندريّة:
————————–
مارينا أراكيليان تقدّم لنا أنثى مدهشة، متمرّدة على صورة المرأة التّقليديّة في الحبّ:
• لا هي أسيرة انتظارٍ سلبي،
• ولا شهيدة عشقٍ متهالك.
بل هي سيدة مشاعرها، تخلق من الغياب حياة، ومن الانتظار ملحمة، ومن اللهفة انتصارًا للذات الحيّة الّتي تنتظر لا ضعفًا بل قدرةً فائقة على الاستمرار.
قصيدة “شوق وانتظار” تحتفي بأنوثة واعية، ناضجة، تعرف كيف تُحبّ دون أن تفقد حضورها، وكيف تنتظر دون أن تذوب في الفراغ.
بهذا تكون مارينا قد رسمت لوحةً جندريّة باذخة :
أنثى الشّوق الّتي تضيء العالم
لا أن تحترق فيه
=====================
ثانياً : القراءة الرّومانسية :
————————-
القصيدة تفيض بمناخ رومانسي بامتياز؛ تبدأ من عنوانها “شوق وانتظار”، حيث يتجسّد العشق كقَدَرٍ حلو ومرّ في آنٍ معًا.
الشّاعرة تستعير الطّبيعة لغةً لعواطفها، فتجعل من “العناقيد”،
و”ثغور النّبض”، و”الدّوح”، و”الفجر”، و”النّدى” عناصر كونيّة تحاكي شغف قلبها.
يتحوّل الحبّ هنا إلى تجربة روحيّة تتجاوز الجسد، بل إلى طقس تطهّري؛ فهي “تُقيم المشاعل” و”توقد القناديل” في “محراب هواك”، ما يربط العشق بالصّلاة والقداسة، ويمنحه طابعًا صوفيًّا بطبعه الرّومانتيكي.
إنه حبٌّ ماثلٌ بين الرّجاء والتّعبد، بين الألم والأمل، لا ينتظر مقابلًا بقدر ما ينتظر الوصال ككشفٍ كونيّ يُعيد للحياة معناها.
في قصيدتها “شوق وانتظار”، تنسج مارينا أراكيليان أرابيان مشهداً من الأشواق النّقيّة، محمّلاً بعاطفة شفّافة لا تخفى على قارئٍ يلامس نبض الحروف.
إنّها قصيدة تنبض بالأنوثة والحنين، وتُعلي من شأن الحبّ بوصفه ملاذاً وجمالاً وانتظاراً يرقى إلى طقوس القداسة.
(١) لغة مشبعة بالحنين والدفء :
————————–
من أوّل بيت في القصيدة، تُطالعنا عبارات مترعة بالمشاعر، حيث:
“وميان الشّوق أمسى
كالعناقيدِ
تدلّت من أهداب قلبي دررا”
هنا تستخدم الشّاعرة استعارة “العناقيد” للدلالة على تراكم الشّوق وتدفّقه، فيما يُسند إلى “أهداب القلب” في صورة تتماهى بين النّبض والرّقة، كأنّ القلب ذاته يُنبت حبّات الشّوق ويسكبها دررًا على الوجود.
( ٢ ) التّماهي مع الطّبيعة كمرآة للعاطفة
——————————–
تمتزج مفردات الطّبيعة بمشاعرها،
كما في قولها:
“كبلابل الدّوح
إذا ما حلّقت بجناحيها
يصير السّفح نقاء طُهرٍ ومسك”
تُجيد الشّاعرة محاورة الطّبيعة، فتجعلها حليفاً في تصوير العشق، فالمكان يتطهّر بجمال الحبّ، وكأنّ المحبوب يمنح العالم معناه، وتتحوّل البلابل إلى تجلّيات للوجدان الشّاعري.
“سأعدّ لك الأيام
علّك تصل قبل خريفٍ
يأخذ من صبري صدودًا وقهرا”
هنا يكمن جوهر الرّومانسية الهادئة: الانتظار لا يُستهلك في الألم، بل يُروى بأمل اللقاء، على حافة الخريف، قبل ذبول الأشواق. وهذا العدّ للأيام فيه من الطّفولة بقدر ما فيه من اللوعة، وهو أحد أسرار الرّومانسيّة الشّعريّة.
“لكم أقمت لك المشاعل شهدا
وكم أوقدت قناديل العمر
في محراب هواك”
في هذه الصّور، تظهر قمّة الإخلاص العاطفي؛ فالشّاعرة توقد العمر قناديل، وتنثر عسل حضورها طواعية، لتُبقي نور الحبّ مشتعلاً في محراب الحبيب، في انحناءة روح تهبّ كلّ ما فيها ولا تنتظر المقابل.
=====================
ثالثاً : القراءة السيميائية :
—————–
كلّ بيت من القصيدة تقريبًا
هو رمز أو استعارة:
• “العناقيد”: ترمز لخصب المشاعر النّاضجة، لكنّ تدليها يعني ثقلاً وانتظاراً طويل الأمد.
• “نعيم الحبّ” و”صدى الشّوق”: يمثّلان جدليّة اللذة والألم، الفرح والمعاناة.
• “المشاعل”، “القناديل”، “محراب الهوى”: رموز طقسيّة، تُحيل إلى العشق بوصفه شعيرة روحية، فيها إشار
Discussion about this post