#قراءات_نقدية
الطيف ككائن وجداني: قراءة تحليلية في شعرية الحضور الغائب عند سعاد يعكوبي في قصيدة : همس الطيف
بقلم نورلدين طاهري
تتخذ هذه القصيدة لنفسها مسارا وجدانيا رفيعا، حيث تتسلل الكلمات كهمسات روحية تبحث عن مستقرها في قلب متأمّل، مثقل بالحنين، متشظّي بين حضور غائب وغياب حاضر. لا نكاد نلمس في النص تمجيدا لحالة الافتقاد بقدر ما نلمس رغبة دفينة في تحويل هذا الافتقاد إلى شعاع داخلي، يُضيء مناطق الصمت ويملأ فجوات الوحشة. الطيف الذي تتحدث عنه الشاعرة ليس كائنا عابرا من عالم اللاوعي، بل هو رفيق وجودي، يسكن تفاصيل اللحظة، ويتحول إلى ضوء يسري في مجاهل الذات، فيذيب الحزن على مهل، دون أن يُبيده تماما.
حالة الصمت المديدة التي ترسمها الشاعرة ليست مجرد انقطاع عن الضجيج الخارجي، بل هي أرض خصبة تتفتّح فيها الذكرى كزهرة ظلّية. الطيف، في هذا السياق، لا يُعامل كمجرد أثر من الماضي، بل ككائن حيّ يتخلّق من الذاكرة ويُعاد تشكيله في الحاضر. إننا أمام خطاب شاعري يُستثمر فيه الغياب ليكون وسيلة حضور، والوحشة لتكون نبعًا للسكينة. التجربة الوجودية هنا ليست مشروطة بزمن أو مكان، بل مرتبطة بحالة شعورية صافية تجعل من الليل مسرحًا لهذا التجلّي الروحي.
في هذا النص الشعري الرقيق، تنسج الشاعرة سعاد يعكوبي خيوط تجربة وجدانية ناعمة ومكثفة، متوغلة في مناطق الشعور الخفي والبوح المترقرق، إذ تلتقي الذات في لحظة افتقاد وصمت مع كائن غير مادي: “الطيف”. هذا الكائن الذي يمثل رمزًا لعلاقة سابقة أو حضور معنوي يتجلى في اللحظات العميقة من الوحدة. إننا أمام قصيدة تتجاوز البعد الظاهر لتستبطن دلالات فكرية وعاطفية تتشابك مع أبعاد وجودية، يتم التعبير عنها بلغة شفافة، وصور متوهجة، وبنية متناغمة.
المضمون في القصيدة لا يُطرح سرديا بقدر ما يُعاش وجدانيا. فالشاعرة تستهل نصها بحالة شعورية مغروسة في “سكون الليل البهيم”، حيث يظهر “الطيف” كعنصر مضاد للوحشة، حاملاً معه “النسيم” و”الرحيق”، وهذه استعارات تستدعي مفاهيم الطمأنينة والحنان. من هنا تبدأ رحلة داخلية مع الذات، رحلة تغوص في صمت اللحظة لتكتشف أن ما يُحيي هذا الصمت هو ذلك الهمس القادم من الذاكرة أو من الحنين. يتكرر الحضور الطيفي لا بوصفه شبحًا مخيفًا، بل ككيان أنسي رقيق، يلعب دور المُنقذ من العتمة، ويحوّل العزلة إلى تأمل، والخسارة إلى إشراق روحي.
وإذا كانت “الوحشة”، “الظلمة”، و”الصمت” تمثل تجليات الألم الداخلي، فإن “الطيف”، “النسيم”، و”النور” تمثل القوى المضادة التي تمنح الأمل والانعتاق. هذا التواشج بين الضدين يجعل من النص تجربة مشحونة بالتوتر الداخلي، ويضفي عليه طابعًا تأمليًا. إذ لا نجد هنا رثاءً مباشرا، ولا حزنًا صارخا، بل محاولة للمصالحة بين الذات وغياب الآخر، ذلك الغياب الذي لا يلغي حضوره الرمزي، بل يعيد تشكيله في صورة طيف يزورها ليلا، مثل نجم لا يختفي.
أما من حيث اللغة والأسلوب، فالشاعرة تعتمد على تركيبة لغوية سلسة، شفيفة، غير معقدة، لكنها في بساطتها محمّلة بدلالات غنية. توظيفها للأفعال بصيغة المضارع (يزورني، يؤنس، يملأ، يشعّ، يسكن…) يمنح النص حضورا آنيا مستمرا، وكأن التجربة لا تنتهي، بل تتجدد مع كل لحظة ليل. هذا الحضور الزمني المفتوح ينسجم مع فكرة الطيف الذي لا يُقيد بمكان أو زمن. استخدام التكرار (كلما اشتدت ظلمتي…، كلما تعمق صمتي…) يعمق الإيقاع الداخلي للقصيدة، ويؤسس لمفارقة شعورية تتنامى تدريجيًا حتى تبلغ ذروتها في البيت الذي تقول فيه: “وأنت النور الذي به تُبدّد ظلمتي سرمدا”. كلمة “سرمدا” هنا ذات أثر خاص، فهي تلخص فلسفة النص في مجازٍ واحد: الأمل السرمدي الذي يمنح الحياة معنى وسط العتمة.
أما بنيويا، فالقصيدة تتكون من أربعة مقاطع تتماوج بين تأملات واعترافات. هي بنية تتبع النسق النفسي لحالة وجدانية، وتبدأ بهدوء شبه ساكن، ثم تنمو في اتجاه تصاعدي، لتتوج في خاتمة تمنح النص بعدا روحيا. لا نجد انكسارا مفاجئا أو قطعا في التدفق الشعري، بل تتوالى الصور والمشاعر في تناغم واضح، يشبه الموج الخفيف الذي لا يزلزل الشاطئ، لكنه يترك أثره في الرمل.
كما أن استخدام العبارات مثل “وسط سكون الليل البهيم”، “ظلمة الليل الحالكة”، “صمتي الطويل”، يمنح النص طابعا تصويريا يتكئ على الأضداد ويستثمر في الجمالية القاتمة ليبرز جمال الأمل. هذا التوظيف للتضاد أحد أهم أسس بناء الصورة الشعرية في القصيدة، حيث لا معنى للنور إلا وسط الظلام، ولا حضور للطيف إلا في الصمت والعزلة.
تقدم الشاعرة سعاد يعكوبي نصا شعريا ينتمي إلى القصيدة الوجدانية المعاصرة التي تراهن على البساطة الشكلية لبلوغ العمق الشعوري. وهي من خلال “همس الطيف” لا تستدعي الماضي للحنين إليه فقط، بل تحوّل حضوره إلى طاقة ضوء داخلية، تجعل من تجربة الفقد لحظة أمل، ومن صوت الغياب همسا دائما في الروح. النص هنا لا يرثي، بل يبني علاقة ميتافيزيقية بين الحضور والغياب، بين الليل والنور، بين الصوت والصمت. علاقة لا تزال تحتفظ ببصمتها الرقيقة في وجدان المتلقي.
——-
المرجع
قصيدة: همس الطيف
سعاد يعكوبي /وجدة
وسط سكون الليل البهيم
يزورني طيفك كالنسيم
يؤنس وحشتي الصامتة
ويملأ قلبي سلاما كالرحيق
وسط ظلمة الليل الحالكة
تشعّ ذكراك كنجم بعيد
تسكن روحي المشتاقة
وتجعلني أتطلع أملا
إلى غد جديد
في لحظات صمتي الطويلة
أسمع صوتك،
يهمس في أذني
فيغمرني بدفء عميق
وكلما اشتدت ظلمتي
ازداد نورك سطوعا
وكلما تعمّق صمتي وانعزالي
ازداد همس صوتك وضوحا
ياطيفا يزورني في وحدتي
دُم لي أملا وملهما
فأنت السلام وسط
ضجيج الحياة
وأنت النور الذي به
تُبدّد ظلمتي سرمدا
Discussion about this post