” أجاثا كريستي: سَيِّدَةُ الظِّلِّ الَّتِي نَسَجَتِ المَوْتَ فَنًّا ”
بقلم : سلمى صوفاناتي
فِي قَبْوٍ مُظْلِمٍ مِنَ القَرْنِ العِشْرِينِ، حَيْثُ كَانَ العَالَمُ يُذْبَحُ مَرَّتَيْنِ – بِحُرُوبٍ عَالَمِيَّةٍ وَبِأَمْرَاضِ الرُّوحِ – جَاءَتِ امْرَأَةٌ هَادِئَةٌ، تَحْمِلُ فِي يَدِهَا قَلَمًا، وَفِي الأُخْرَى كَأْسَ سُمٍّ، لِتَخْلَعَ عَلَى الجَرِيمَةِ تَاجًا مِنَ البِلَّوْرِ، وَتَجْعَلَ مِنَ القَتْلِ فَنًّا رَاقِيًا. إِنَّهَا “أَجَاثَا كْرِيسْتِي “، السَّاحِرَةُ الَّتِي حَوَّلَتِ الدَّمَ إِلَى حِبْرٍ، وَالجُثَثَ إِلَى أَحْجِيَاتٍ، وَالشَّرَّ إِلَى مُتْعَةٍ فِكْرِيَّةٍ.
—
” الطِّفْلَةُ الَّتِي كَانَتْ تُحَدِّثُ الشَّخْصِيَّاتِ الخَيَالِيَّةَ “
وُلِدَتْ أَجَاثَا مَارِي كَلَارِيسَا مِيلَرْ عَامَ 1890 فِي إِنْجِلْتِرَا، طِفْلَةً خَجُولَةً لَا تَلْعَبُ مَعَ الأَطْفَالِ، بَلْ تَخْتَرِعُ أَصْدِقَاءَ وَهْمِيِّينَ – رُبَّمَا كَانَ أَوَّلُهُم ” القَاتِلُ ” الَّذِي سَيُصَاحِبُهَا طَوَالَ حَيَاتِهَا. فِي بَيْتِ العَائِلَةِ الفِيكْتُورِيَّ، حَيْثُ كَانَتِ الرِّوَايَاتُ البُولِيسِيَّةُ تُعْتَبَرُ “قِرَاءَةً مُبْتَذَلَةً”، كَانَتْ هِيَ تَخْتَلِسُ الكُتُبَ كَاللِّصِّ، وَتُدْرِسُ السُّمُومَ كَالصَّيْدَلَانِيَّةِ، وَتُرَاقِبُ البَشَرَ كَعَالِمَةِ أَنْثْرُوبُولُوجِيَا.
” الِاخْتِفَاءُ الأَعْظَمُ: عِنْدَمَا أَصْبَحَتْ هِيَ نَفْسُهَا لُغْزا ”
فِي عَامِ 1926، بَعْدَ أَنْ نَشَرَتْ عِدَّةَ رِوَايَاتٍ، اخْتَفَتْ أَجَاثَا فَجْأَةً لِمُدَّةِ 11 يَوْمًا. وُجِدَتْ لَاحِقًا فِي فُنْدُقٍ تُسَجِّلُ فِيهِ بِاسْمِ عَشِيقَةِ زَوْجِهَا! الصَّحَافَةُ وَصَفَتِ الأَمْرَ بِـ”انْهِيَارٍ عَصَبِيٍّ”، لَكِنَّ كْرِيسْتِي – سَيِّدَةَ الأَلْغَازِ – لَمْ تَشْرَحِ الحَادِثَةَ أَبَدًا. هَلْ كَانَتْ تُجَرِّبُ اخْتِرَاعَ جَرِيمَةٍ كَامِلَةٍ؟ أَمْ أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَخْتَبِرَ شُعُورَ الضَّحِيَّةِ؟ لَقَدْ حَوَّلَتْ حَيَاتَهَا الخَاصَّةَ إِلَى ( الفَصْلِ الأَكْثَرَ إِثَارَةً فِي رِوَايَاتِهَا ).
” مَلِكَةُ العُقْدَةِ المُسْتَحِيلَةِ ”
كَتَبَتْ 66 رِوَايَةً بُولِيسِيَّةً وَ14 مَجْمُوعَةً قَصَصِيَّةً، وَاخْتَرَعَتْ:
– (البُوارُو): المُحَقِّقَ البَلْجِيكِيَّ صَاحِبَ الشَّوَارِبِ المِثَالِيَّةِ، الَّذِي يَحُلُّ الجَرَائِمَ بِعَقْلِهِ المَنْطِقِيِّ كَآلَةِ بِيَانُو.
– (مَارْبَل): العَجُوزُ الفَطِنَةُ الَّتِي تَحُلُّ الجَرَائِمَ وَهِيَ تُحْبِكُ الصُّوفَ، كَأَنَّمَا الشَّرُّ مَجَرَّدُ غَرْزَةٍ خَاطِئَةٍ فِي نَسِيجِ الحَيَاةِ.
لَكِنَّ عَبَقَرِيَّةَ كْرِيسْتِي لَمْ تَكْمُنْ فِي الشَّخْصِيَّاتِ، بَلْ فِي “فَنِّ تَضْلِيلِ القَارِئِ “:
– فِي “جَرِيمَةٌ فِي قِطَارِ الشَّرْقِ السَّرِيعِ”، جَعَلَتْنَا نَعْتَقِدُ أَنَّ القَاتِلَ وَاحِدٌ، بَيْنَمَا كَانُوا جَمِيعًا!
– فِي “القَتْلُ عَلَى النِّيلِ”، حَوَّلَتِ الضَّحِيَّةَ إِلَى قَاتِلَةٍ.
– فِي “المَوْتُ عَلَى النِّيلِ”، جَعَلَتِ المَشْهَدَ كُلَّهُ خِدْعَةً ضَوْئِيَّةً.
السُّمُّ: حَبِيبَتُهَا القَاتِلَةُ
كَانَتْ أَجَاثَا تَعْرِفُ 42 نَوْعًا مِنَ السُّمُومِ، لِأَنَّهَا عَمِلَتْ فِي الصَّيْدَلَةِ أَثْنَاءَ الحَرْبِ العَالَمِيَّةِ. فِي رِوَايَاتِهَا، المَوْتُ لَيْسَ طَلْقَةً مُسْرِعَةً، بَلْ (تَحْفَةٌ فَنِّيَّةٌ بَطِيئَةٌ ) :
– الزَّرْنِيخُ فِي الشَّايِ.
– السِّيَانِيدُ فِي اللَّوْزِ.
– السِّتْرِكَنِينُ فِي النَّبِيذِ.
وَكَأَنَّهَا تَقُولُ: “المَوْتُ لَيْسَ لَحْظَةً مُفَاجِئَةً، بَلْ هُوَ قَصِيدَةٌ تَكْتُبُهَا الأَيَّامُ”.
الجُنُونُ الخَلَّاقُ: عِنْدَمَا كَانَتْ تَكْتُبُ رِوَايَتَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ!
كَانَتْ تُؤْمِنُ أَنَّ الكَاتِبَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَجْنُونًا قَلِيلًا، فَهِيَ:
– تَكْتُبُ رِوَايَةً بُولِيسِيَّةً بِيَدٍ، وَرِوَايَةً رُومَانْسِيَّةً بِاسْمٍ مُسْتَعَارٍ بِاليَدِ الأُخْرَى.
– تَخْلُقُ القَتَلَةَ فِي الصَّبَاحِ، وَتَلْعَبُ الشَّطْرَنْجَ مَعَ زَوْجِهَا عَالِمِ الآثَارِ فِي المَسَاءِ.
– تُسَافِرُ إِلَى الشَّرْقِ الأَوْسَطِ، وَتَدْفِنُ نَفْسَهَا فِي الرِّمَالِ كَالْمُومِيَاوَاتِ الَّتِي كَانَ زَوْجُهَا يَنَقِّبُ عَنْهَا.
المَوْتُ الأَخِيرُ: (عِنْدَمَا دَفَنَتْ سِرَّهَا مَعَهَا)
مَاتَتْ عَامَ 1976، وَتَرَكَتْ وَرَاءَهَا “أَعْظَمَ سِرٍّ فِي التَّارِيخِ ” : كَيْفَ اسْتَطَاعَتِ امْرَأَةٌ – فِي عَصْرٍ كَانَ يَرْفُضُ أَنْ تَعْمَلَ المَرْأَةُ كَشُرْطِيَّةٍ – أَنْ تَحْكُمَ عَلَى العَالَمِ بِأَسْرِهِ ،و أَنْ يَجْلِسَ مُطِيعًا، يَنْتَظِرُ حُكْمَهَا فِي “مَنِ القَاتِلُ؟”.
—
” لِمَاذَا تَبْقَى أَجَاثَا كْرِيسْتِي أَعْظَمَ كَاتِبَةِ جَرِيمَةٍ فِي التَّارِيخِ؟”
لِأَنَّهَا لَمْ تَكْتُبْ عَنِ القَتْلِ، بَلْ كَتَبَتْ عَنِ :”الرُّوحِ البَشَرِيَّةِ عِنْدَمَا تَكْسِرُ كُلَّ القَوَاعِدِ “. جَعَلَتْنَا نَضْحَكُ عَلَى الجُثَثِ، وَنَشْعُرُ بِالشَّفَقَةِ عَلَى القَتَلَةِ، وَنَشُكُّ فِي الأَبْرِيَاءِ. عَلَّمَتْنَا أَنَّ الشَّرَّ لَيْسَ أَسْوَدَ وَلَا أَبْيَضَ، بَلْ هُوَ “50 ظِلًّا مِنَ الرَّمَادِ “.
اليَوْمَ، بَعْدَ نِصْفِ قَرْنٍ مِنْ مَوْتِهَا، لَا يَزَالُ كُلُّ كَاتِبٍ بُولِيسِيٍّ يَعِيشُ فِي “ظِلِّ أَجَاثَا “، تَمَامًا كَمَا تَعِيشُ كُلُّ جَرِيمَةٍ فِي ظِلِّ الشَّكِّ.
—
خِتَامًا :
أَجَاثَا كْرِيسْتِي لَمْ تَكُنْ كَاتِبَةً، بَلْ كَانَتْ “سَاحِرَةً أَلْقَتْ تَعْوِيذَةً عَلَى العَالَمِ، فَصَارَ الجَمِيعُ – حَتَّى القَتَلَةُ – شَخْصِيَّاتٍ فِي رِوَايَتِهَا .”
فَهَلْ نَجْرُؤُ نَحْنُ – قُرَّاؤُهَا – عَلَى قَلْبِ الصَّفْحَةِ الأَخِيرَةِ؟






































