“خَلِّ بالِكَ مِن زُوزُو”: رَقْصَةٌ النّور بَيْنَ الأَضْوَاءِ والظِّلَال…
بقلم :سلمى صوفاناتي
فِي زُقَاقٍ قديم حَيْثُ تَتَنَاثَرُ أَضْوَاءُ الفَوَانِيسِ الذَّهَبِيَّةِ، وَتَتَعَانَقُ رَوَائِحُ اليَاسَمِينِ مَعَ أَنْغَامِ الكَمَانَجَاتِ الحَزِينَةِ، وُلِدَ فِيلمٌ صَارَ أَيْقُونَةً لِلْجَمَالِ وَالوَجَعِ.. “خَلِّ بالِكَ مِن زُوزُو”. هُنَاكَ، حَيْثُ تَتَحَوَّلُ الحَيَاةُ إِلَى لَوْحَةٍ زَيْتِيَّةٍ تَخْتَلِطُ فِيهَا دُمُوعُ الأُمَّهَاتِ بِضَحَكَاتِ العُشَّاقِ. وَصَرَخَاتُ المُجْتَمَعِ بِصِدْقِ المَشَاعِرِ، كَتَبَتِ السّينمَا المِصْرِيَّةُ أَحَدَ أَرْوَعِ فُصُولِهَا.
الفَتَاةُ الَّتِي حَمَلَتِ العَالَمَ عَلَى كَتِفَيْهَا ..
زُوزُو.. أَوْ “زَيْنَب ” كَمَا يُنَادِيهَا قَلْبُهَا الطَّاهِرُ، هِيَ ذَلِكَ الكَائِنُ الهَشُّ الَّذِي يَقِفُ عَلَى حَافَّةِ هُوِيَّتَيْنِ: طَالِبَةُ الأَدَبِ المُتَعَطِّشَةُ لِلْحِكْمَةِ بَيْنَ جُدْرَانِ الجَامِعَةِ، وَالرَّاقِصَةُ الشَّهِيرَةُ الَّتِي وَرَّثَتْ عَنْ أُمِّهَا (نَعِيمَةَ الأَلْمَاظِيَّةِ) شَغَفَ الفَنِّ وَكِفَاحَ القُوتِ. سُعَادُ حُسْنِي – بِسِحْرِهَا النَّادِرِ – جَسَّدَتْ هَذَا التَّنَاقُضَ بِأَلَمٍ يَذُوبُ كَالشَّفَاهِ تَحْتَ المَطَرِ، فَجَعَلَتْ مِنْ كُلِّ نَظْرَةٍ حِكَايَةً، وَمِنْ كُلِّ حَرَكَةٍ قَصِيدَةً.
أَمَّا سَعِيدٌ (حُسَيْنُ فَهْمِي)، الفَتَى الذَّهَبِيُّ مِنْ عَالَمِ النُّخْبَةِ، فَقَدْ جَاءَ كَنَسِيمٍ غَرِيبٍ يَحْمِلُ مَعَهُ حُبًّا يُهَدِّدُ جُدْرَانَ التَّابُوهَاتِ. عَلَاقَتُهُمَا لَمْ تَكُنْ مَجَرَّدَ قِصَّةِ عِشْقٍ، بَلْ ثَوْرَةً صَامِتَةً كضِدَّ مِقْصَلَةِ المُجْتَمَعِ الَّذِي يَرْفُضُ أَنْ تَلْتَقِيَ الضِّفَّتَانِ.
1972.. العَامُ الَّذِي لَمْ يَنْتَهِ
حِينَ أُطْلِقَ الفِيلمُ إِلَى الجُمْهُورِ، تَحَوَّلَ إِلَى ظَاهِرَةٍ نَادِرَةٍ. عَامٌ كَامِلٌ مِنَ العُرُوضِ المُتَوَاصِلَةِ، وَجُمْهُورٌ يُرَدِّدُ أَغَانِيَهُ (مِثْلَ “يَا وَاد يَا تَقِيلْ”) كَأَنَّهَا تَرَانِيمُ يَوْمِيَّةٌك. لَمْ يَكُنِ الفِيلمُ مَجَرَّدَ مُشَاهَدَةٍ، بَلْ طَقْسٌا جَمَاعِيٌّا أحْتَضَنَ أَحْلَامَ المَصْرِيِّينَ وَأَسْئِلَتَهُمْ عَنِ الهَوِيَّةِ وَالطَّبَقَةِ وَالحُرِّيَّةِ.
عَرَّابَا السِّحْرِ: صَلَاحُ جَاهِين وَحَسَنُ الإِمَامِ
صَلَاحُ جَاهِين– شَاعِرُ الشَّعْبِ – كَتَبَ لِلْفِيلمِ رُوحَهُ وَكَلِمَاتِهِ، فَجَعَلَ مِنَ الحِوَارِ شُعُورًا مَلْمُوسًا، وَمِنَ الأَغَانِي صَرَخَاتٍ فِي صَمْتِ اللَّيْلِ. أَمَّا حَسَنُ الإِمَامِ، سَاحِرُ الشَّاشَةِ، فَقَدْ حَوَّلَ السِّينَارْيُو إِلَى بَصْمَةٍ بَصَرِيَّةٍ تَتَنَقَّلُ بَيْنَ بَهْرَجَةِ الكَابَارِيهِ وَصَرَامَةِ الصَّالُونَاتِ الرَّاقِيَةِ، لِيُذَكِّرَنَا أَنَّ الفَنَّ الحَقِيقِيَّ هُوَ ذَاكَ الَّذِي يَلْمِسُ الجُرْحَ دُونَ أَنْ يُدْمِيَهُ.
لِمَاذَا مَا زِلْنَا نُحِبُّ زُوزُو؟
لِأَنَّهَا – بِبَسَاطَةٍ – مِرْآةُ كُلِّ مَنْ عَاشَ تَنَاقُضًا.
الفَتَاةُ الَّتِي رَفَضَتْ أَنْ تُخْتَزَلَ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، الأُمُّ (تَحِيَّةُ كَارِيُوكَا) الَّتِي ضَحَّتْ بِكَرَامَتِهَا مِنْ أَجْلِ لُقْمَةِ شَرَفٍ، وَالعَاشِقُ الَّذِي تَعَلَّمَ أَنَّ الحُبَّ الحَقِيقِيَّ يَبْدَأُ حِينَ نَرَى الإِنْسَانَ من وَرَاءِ القِنَاعِ. الفِيلمُ، بِرُغْمٍ من مُرُورِ نِصْفِ قَرْنٍ على إنتاجه مَا زَالَ يُحَرِّكُ السُّؤَالَ الأَزَلِيَّ: هَلْ نَسْتَحِقُّ أَنْ نُحَبَّ كَمَا نَحْنُ؟
اليَوْمَ، كُلَّمَا مَرَرْنَا بِـ “شَارِعِ مُحَمَّدِ عَلِيّ”، أَوْ سَمِعْنَا نَغْمَةَ الكَلَارِينِيتِ (الَّتِي عَزَفَهَا سَمِيرُ غَانِمٍ بِبَرَاعَةٍ)، نَرْفَعُ رُؤوسَنَا كَأَنَّمَا نَبْحَثُ عَنْ ظِلِّ زُوزُو الطَّائِرِ بَيْنَنَا.. تِلْكَ الَّتِي عَلَّمَتْنَا أَنَّ الرَّقْصَ عَلَى الحَافَّةِ فَنٌّ، وَالبُكَاءَ تَحْتَ المِيكْيَاجِ بَطُولَةٌ، وَأَنَّ الحُبَّ – فِي النِّهَايَةِ – هُوَ الجَوَابُ الوَحِيدُ …
Discussion about this post