بقلم ….مهندس باسل كويفي
علاقة الحاضر بالماضي في فلسفة التاريخ ، في غاية الصُّعوبة والتَّعقيد ، لأنَّها علاقة مُرَاوِغَة ومُتقلِّبة ومُتحركة ، ومِن الصَّعْب السيطرة على نُقطة متحركة في كُل الاتجاهات .
إذا كان لزاماً فهم الماضي لفهم الحاضر ، فهذا لا يَعني أن نَعيش الماضي في الحاضر ، أو ننقل الحاضر إلى الماضي ، وإنَّما يعني امتلاك قواعد المنهج العِلمي والتسلُّح بأحدث النظريات الفكرية ،
إن القدرة على تفسير ظواهر التاريخ وأحداث الماضي ، تُعتبر من أهم خصائص العقل البشري . وهذه القدرة مُستمدة بالأساس مِن فهم الواقع واستيعاب أحداثه ، فالزمنُ مِثل مَوج البَحْر ، لا يُمكن امتلاكه والسَّيطرة عَلَيه ، ولكن يُمكن التعامل معه بذكاء ، والاستفادة مِن قُوَّته ، وتَوظيفه لصالح تحقيق المنافع والمكاسب . وبما أن السباحة ضِد التيار مُتعبة وشديدة الخُطورة ، وقد تُؤدِّي إلى الانهيار والغرق ، فإنَّ الحل الوحيد هو الاستفادة مِن حركة التيار للوُصول إلى بَر الأمان .
وعليه فإن لغة الحوار ومهارات التفاوض هي السبيل الأفضل لتحقيق الأمن والسلام والاستقرار في العالم ، ابتداء من مناطق الصراع الساخنة وانتهاء بمناطق الصراع لتقاسم المصالح والنفوذ .
ويتطلب ذلك أن يتوقف المؤدلجون طائفياً أو دينياً أو إثنياً أو العنصريين سياسياً ومجتمعياً ( التطرف بأشكاله ) عن الاقتناع بأنهم يمتلكون الصواب المطلق ، وبالمقابل أن لا شيء يتقدم على حريّة المواطن وحقوقه ، وأن التشاركية بين الجميع حلٌ ، والقطيعة إشكالية ، وعند إدراك كل طرف بأن الطرف الآخر يمتلك نقاطاً بيضاء ؛ وأن مجموع النقاط البيضاء عند تجميعها من كل الأطراف تشكل كلمة سواء يُبنى عليها ، حينئذ ستكون ولادة الديمقراطية ولادةً صحيحة، ويكون مناخ العمل السياسي مناخاً طبيعياً قادراً على إنهاض المجتمعات وتقدم الدول .
إن حاجة الولايات المتحدة الأميركية لحلفاء جراء العملية العسكرية الروسية على أوكرانيا دفعها الى تغيير سياستها الخارجية ، فخلال العامين الماضيين من ولاية الرئيس جو بايدن وقعت إساءات متعمدة ضد دول عديدة من بينها روسيا والصين الدولتين النوويتين والسعودية وايران الدولتين النفطيتين ، تبعته بعض العقوبات القاسية والوحشية بحقوق الشعوب ، وسط تجاهل مقصود للاُطر الانسانية والأخلاقية وحقوق الانسان ، ومتناسية عن عمد أن قوة القانون واحترامه ليست في تغليظ العقوبات ، إنما في الإحساس بالعدالة التي لا تتحقق إلا بالنزاهة والرفاهة ….من جانب آخر لفهم حقيقة ما يجري في الكواليس الضيقة من تسويات ،نؤكد ضرورة إجراء حوار ومفاوضات حقيقية وجادّة بين الولايات المتحدة الامريكية ومن خلفها الغرب مع الدول التي تمت الاساءة لها ودولنا في المنطقة الأوسطية ،وأن تكون لهذه المفاوضات الحتميّة ( مباشرة و غير مباشرة ، تجري بين خصمين بشأن نزاع يبحث طرفاه بحسن نيّة عن حلٍ متوازن يستجيب لبعض مطالبهما، اضطر إليها طرفان بينهما عداء مستحكم ، لم تنته أسبابه بعد ، يعكس تناقضاً في الرؤى والتوجهات في مختلف القضايا الإقليمية والدولية ) خصوصّية تميّزها عن أي مفاوضات دولية أخرى لتعزيز الأمن والاستقرار والسلام الدولي .
صحيح أن لدى كل من الولايات المتحدة وأوروبا مصلحة واضحة في التوصل إلى اتفاقيات وتسويات مرحلية أو مستدامة لأسباب عديدة في هذه المرحلة الحرجة من مراحل تحوّل النظام الدولي ، إلا أن فرض شروط تعجيزية غير متوازنة قد يؤدي الى انفجار حرب عالمية تهدد الحياة على ظهر كوكبنا ، في المقابل فالاتفاق والحكمة والاحتواء الذي هو نقيض الإقصاء (ليس بالحديث تاريخياً ) ، لكنه يتطور بسرعة نتيجة التغيرات في حقوق الإنسان ورفاهته ، واذا صدقت النوايا والأفعال فمن الممكن أن تدخل المنطقة برمتها مرحلة جديدة من تاريخها تفتح آفاقاً نحو التهدئة والاستقرار والبحث الجدي عن تسويات لأزمات المنطقة والعالم المستحكمة .
قبل قرن من الزمن، تفاخر الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون، بقوة العقوبات في التأثير على الناس العاديين، واصفًا لها بالقول: “شيء أكثر روعة من الحرب” بسبب قدرتها على إعادة “أمة إلى رشدها تمامًا كما يزيل الاختناق الذي يتعرض له الشخص أية قدرة عنده على القتال”.
طيلة عقدين من الزمن، كانت العقوبات تستعيد مكانتها في مراكز القرار الغربية، رغم قناعة الخبراء بمحدودية جدواها ونتائجها الكارثية العقابية على المجتمعات وأضحت سياسة عامة يمارسها الغرب تتعارض مع القانون الدولي وسيادة الدول والتدخل في شؤونها الداخلية وتتجاوز الامم المتحدة ومجلس الامن الدولي المنوط به فرض عقوبات في حال كانت الدولة التي يتم صدور قرار دولي بمعاقبتها قد تشكل تهديداً للأمن والسلام العالمي .
جاءت الحرب الأوكرانية لتصل العقوبات إلى أرقام قياسية لا سابق لها في التاريخ البشري المكتوب. اجتماعات شبه دائمة لمجموعة السبع والاتحاد الأوروبي ودول الناتو لإقرار المزيد من العقوبات على الاتحاد الروسي. كل اجتماع يحمل قائمة بعقوبات جديدة، حتى ظهور مجموعات بحث وعصف ذهني للتنقيب عن عقوبات فاعلة ، تهدد بالمزيد من النيران المشتعلة أصلاً .
من ناحية اخرى قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن هدف بلاده هو تأسيس حزام سلام في المنطقة وخارجها عبر نهج دبلوماسي مبادر يولي أولوية للانسان وقيمه.
جاء ذلك في كلمة خلال قمة منظمة شنغهاي ، في مدينة سمرقند ، بأوزبكستان يوم الجمعة 16 -09-2022 ولفت أردوغان أن بلاده تمثل جسراً بين الشرق والغرب، بسبب موقعها المتميز وإمكاناتها الفريدة، معرباً عن استعداد تركيا للتعاون في كافة المجالات ومنها الأمن والاقتصاد والطاقة والنقل والزراعة والسياحة.
وأضاف “بصفتنا شريكا محاورا منذ 10 أعوام في منظمة شنغهاي للتعاون باتت المنظمة واحدة من نوافذنا المفتوحة على آسيا “.
وأشار أردوغان إلى التحديات الماثلة أمام البشرية مثل تغير المناخ والأوبئة وأمن امدادات الغذاء والطاقة والإرهاب ومعاداة الأجانب والإسلام والعنصرية والهجرة غير النظامية والركود الاقتصادي وتعطل سلاسل التوريد ،وأكد أنه لا يمكن التغلب على هذه التحديات إلا عبر تعاون عالمي وتضافر للجهود من أجل حل المشاكل.
أما الرئيس الصيني شي جين بينج،فقال إنّ “على القادة العمل معاً على التشجيع على قيام نظام دولي يسير في اتجاه أكثر عدلاً وعقلانية”، مشدداً على أهمية “منع أي محاولة من جانب قوى خارجية لتنظيم ثورات ملونة في الدول الأعضاء في منظمة شنغهاي”، ومضيفاً أنه “يجب أن ندعم جهود بعضنا البعض لحماية الأمن والتنمية”.
وأشاد الرئيس الروسي، بوتين، بالدور المتعاظم لمراكز النفوذ الجديدة الذي يتضح بشكل متزايد ، مشددا على أن التعاون بين بلدان منظمة شنغهاي خلافاً للدول الغربية يستند إلى مبادئ مجردة من أي أنانية ، وأضاف: نحن منفتحون على التعاون مع العالم بأسره ، ونأمل أن يدير الآخرون سياستهم استنادا إلى المبادئ نفسها .
ومن جهته، أكّد الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ، أنّ الأحادية الأمريكية تسعى لإبقاء دول العالم في حالة من التخلف .
من الواضح حالياً ، أن الحرب في اوكرانيا هي بين روسيا والناتو ، تجري على أرض أوكرانيا، بدأت وطالت وقد تمتد نيرانها إلى أماكن أخرى ، ومعها وبعدها يُعاد تشكيل العالم من جديد.
في تطور لافت أعلن الرئيس بوتين “التعبئة الجزئية” في روسيا سبتمبر الماضي ، لتدخل الحرب الأوكرانية فصلاً جديداً من التصعيد ميدانياً ولوجستياً ، يرتبط بانضمام أراضٍ أوكرانية إلى روسيا والاتحاد الروسي . في جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك (شرق اوكرانيا ) ومنطقتي زاباروجيا وخيرسون .
إن القدرة على المناورة وكسب الوقت وتوجيه الضربات المؤلمة … هو في صميم العلوم العسكرية ، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في نفس الوقت قابلية الطرف الآخر في قبول الضربات واستنزاف قدراته بما يقلص الفرص في التفاوض والحوار لوقف الحرب وإجراء تسوية متوازنة .
هل بالامكان البحث عن خطة انقاذية قابلة للتداول والتنفيذ في الحرب التي تزداد اشتعالاً تحمي العالم وتجنبه مآسي حرب عالمية ليس بقدرة دوله والبشرية تحمل نتائجها اذا بقيت للكوكب حياة .
في القراءات العلمية والعملياتية للحرب العالمية الثانية واستخدام القنبلة الذرية من قبل امريكا فيها ، واستبيان مدى قدرتها التدميرية وتأثيرها على الجينات البشرية والكائنات الحية ، ولحظ التقدم اللامحسوب للقدرات النووية لدى الدول التي تمتلك ذلك السلاح الفتّاك بالاضافة الى انتاج صواريخ عابرة للقارات ومتوسطة المدى وتكتيكية باستطاعتها حمل رؤوس نووية وتستطيع الوصول الى اي مكان بدقة كبيرة ، اضحى من الخيال والاوهام استخدام تلك الاسلحة في حروب بين اعضاء نادي الصواريخ النووية لأن ذلك يشكل نهاية المتحاربين وبالتالي نهاية العالم ، وقد يكون من واقع تدخلات وحروب قامت بها امريكا في مناطق عديدة من العالم وبريطانيا في الفوكلاند وفرنسا في افريقيا وفي هذا العام العملية العسكرية الروسية في اوكرانيا ، أنها حروب تتم بالاسلحة التقليدية والمتطورة ، وان النصر والانتصار في هذه المعارك هو لتحقيق أهداف محددة وتحصيل لاحداثيات جديدة وتقاسم نفوذ باطاراته العنيدة ، ويؤكد النظرية القائلة انه في زمن التقدم العسكري المتوازي بين معسكرين لا يمكن ان تُهزم دولة نووية في نفس الوقت الذي لا يمكنها ان تحقق انتصاراً كاسحاً منظوراً بشكل مباشر .
تثبت الايام والتاريخ ان الجغرافيا من أهم عناصر علاقات الدول المتجاورة بشقيها الايجابي والسلبي وعليه فان الدور الجيوسياسي لتلك الدول كلما تعاظم وكلما تم بناؤه على المصالح المشتركة المتوازنة يساهم بالتأكيد في تعزيز السلام والاستقرار على المستوى المحلي والاقليمي والدولي ، وبالتالي في استدامة التنمية بمختلف تسمياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية …
هل الاستقرار في منطقتنا الأوسطية يمر عبر ايجاد حلول عادلة للقضية الفلسطينية والموضوع الكردي والملف النووي الايراني ..
إن طرح هذا السؤال المفصلي، يمنح بعض الأمل في عقلنة السياسة، فكراً وعملاً وخطاباً، ويشير إلى أن أحد أسباب الاستعصاء الكبرى والأساسية، يكمن في عدم الإقرار بأن لا حل سياسياً ممكناً من دون الإقرار بأن هذا الحل ينبغي له أن ينطلق بمشاركة سورية الموحّدة ، وأن الواقع العملي والإحصائي يؤكد أن تمسّك أطراف الصراع ( الدول الفاعلة بالملف السوري ) ، في أي صراع محلي بحوامل خارجية تستند الى رؤية سياسية إقصائية، لاستمرار الصراع، وتفتيت الجغرافيا، والقضاء على المشتركات الاجتماعية والثقافية والإنسانية والحضارية ، بين أبناء البلد الواحد .
خيبتنا في منطقتنا الأوسطية فشل الإدارة المستمر ، والصورة السيئة لنا في العالم التي يسببها الانسداد السياسي المزمن ، وانعدام إرادة التغيير ، من خلال تضمين الديموقراطية بلا مضمون والحرية باللون لا بالطعم في الدساتير الوضعية النظرية ، مما أفقد مواطنيها الثقة في سياساتها المختلفة ، ولن يؤدي استمرار الإخفاق في معالجة فقدان الثقة هذا دون تغييرات حقيقية سوى إلى تفاقم مشاكلها .
مشكلة العقل البشري أنه يريد أن يُخضع الكون كله للمقاييس التي إعتاد عليها متجاهلاً حقيقة ومنطقية التغيير الأزلية الكونية التي أوضحها التاريخ والجغرافيا عبر الحضارات .
وكما قال الاديب ” توفيق الحكيم ”
إن أزمة الإنسانية الآن، و في كل زمان هي أنها تتقدم في وسائل قدرتها، أسرع مما تتقدم في وسائل حكمتها .
والى لقاء آخر …
مهندس باسل كويفي
Discussion about this post