“أبو كيس”
رَبَتَ على كتفِها بحنان، كما كانت تفعلُ معه وهو صغير، كي تُشعرَه بالأمان فينام..
_ هيّا أخبريني يا أمّي لماذا ونحن أطفال كنتم علينا تكذبون، ولنا تقولون: إنّ “أبو كيس” تارة خلف الباب وتارة في”الصّالون؟
لماذا يا أمّي أفهمتمونا بأنّ “أبو كيس” هو واحد في الحياة، وأنّه يرحل إذا ما سَكَتنا وخَلَدنا إلى النّوم؟
“أبو كيس” لم يرحل يا أمّي، لقد تزوّج وتناسل وتكاثر، وصار له ذريّة وأحفاد، امتهنوا حرفته، وراحوا يحملون أكياسهم ليملؤوها من عرق جبيننا، وانحناء ظهورنا، واعتلال أجسادنا.
“أبو كيس” يا أمّي صار عصابة وقبيلة، تقرع أبوابنا المغلقة على أحزاننا وآلامنا، أبوابنا السّاترة عرينا وجوعنا وكرامتنا، وتوزّعت بوقاحة على أعمال السّلب والنّهب والنّصب، منهم مَن يسرق لقمة عيشنا والغذاء، ومنهم مَن يسرق نور الكهرباء، ومنهم مَن يسرق الماء والكساء، ومنهم من يسرق الصّحّة والدّواء، حتّى كتب أطفالنا، وتعليم أولادنا.
“أبو كيس” الزّمن الماضي يا أمّي كان وهمًا..كان طيفًا، يسرق الأولاد العُصاة الّذين أمهاتِهم يعذّبون كما كنتم لنا تقولون، أمّا “أبو كيس” الزّمن الحاضر فهو لا يسرق العصيان وحسب يا أمّي، بل يسرق الأبناء المطيعين من أحضان أمهاتهم، ويشلحهم في ديار الغربة والمجهول، كما تُذري رياح الخريف أوراق الشّجر.
“أبوكيس” يا أمّي يسرق الابتسامة من عيون الأطفال والأمّهات والآباء والعجائز والأخوة والأخوات، فيحرمهم هناءة النّوم وفرح الحياة.
“أبو كيس” الّذي كان يُخيف الأطفال الخارجين عن السّلطة الأبويّة، أصبح الآن يُرعب كلّ كبار النّفوس خارج السّلطة التّعسُّفيّة، فيسرق أحلامهم وآمالهم وأمانيهم ومستقبلهم، وأعمارهم…
عانقها بلهفة الطّفل الخائف من الظّلام، أسند رأسه إلى صدرها المتعب ليشعر بالسّلام، وراح يُقبّل يدها المثلّمة بسنين الشّقاء، فشعر بحاجته إلى البكاء، لأنّه لم يستطع أنْ يؤمّن لها الدّواء.. ذرف دمعة حسرة ومرارة، سرعان ما كفكفها حين تذكّر أنّ علبة المناديل فارغة لديه، وقد علاها الغبار، منذ شهر أيّار.
وبلوعةٍ وأسًى شديدَين وهي تتألّم نظرت أمّه إليه، دون أن تنّظر في عينيه، وفتحت فاها لتتكلّم فلفظت أنفاسَها الأخيرة.
عايدة قزحيّا
من “مجموعتي القصصيّة”
Discussion about this post