طلالُ مدَّاح.. السَّاقِي الَّذِي حَوَّلَ دَمْعَ الأَرْضِ إِلَى أَنْغَامٍ .
بقلم : سلمى صوفاناتي
لَمْ يَكُنْ يُغَنِّي.. بَلْ كَانَ يُنْبِتُ جَنَّاتٍ فِي صُدُورِ العَابِرِينَ. كُلَّمَا ارْتَفَعَ صَوْتُهُ، اكْتَمَلَ القَمَرُ، وَكُلَّمَا هَمَسَ، تَسَاقَطَتِ النُّجُومُ كَاللَّآلِئِ مِنْ عِقْدِ اللَّيْلِ.
يَا وَطَنِيَّ الحِجَازِ!
فِي مَكَّةَ، حَيْثُ تُولَدُ الأَنْبِيَاءُ وَالأَغَانِي، فَتَحَ طَلَالٌ عَيْنَيْهِ عَلَى دُنْيَا لَمْ تُعْطِهِ إِلَّا قِيثَارَةَ الرُّوحِ. نَشَأَ فَقِيرًا بِكُلِّ شَيْءٍ إِلَّا الصَّوْتَ.. ذَلِكَ الكَنْزُ الَّذِي حَوَّلَ اليُتْمَ إِلَى مَلْحَمَةٍ، وَالحِرْمَانَ إِلَى سِيمْفُونِيَةٍ.
“صَوْتُ الأَرْضِ”.. لَمْ يَكُنْ لَقَبًا، بَلْ كَانَ مَصِيرًا”
– لِأَنَّ حَنْجَرَتَهُ كَانَتْ وَطَنًا لِكُلِّ مُشَرَّدٍ مِنَ الحُبِّ.
– لِأَنَّ نَبَرَاتِهِ كَانَتْ أَنْهَارًا تَرْوِي ظَمَأَ الذِّكْرَيَاتِ.
– لِأَنَّ صَوْتَهُ كَانَ يَلَامِسُ الأَعْمَاقَ كَزِلْزَالٍ مِنَ الشَّوْقِ.
“عِنْدَمَا يَبْكِي الفَنَّانُ عَلَى المَسْرَحِ”
لَمْ تَكُنْ دُمُوعُهُ دَلِيلًا عَلَى ضَعْفٍ.. بَلْ كَانَتْ بُرْهَانًا عَلَى أَنَّ الفَنَّ الحَقِيقِيَّ هُوَ أَنْ تُخْرِجَ رُوحَكَ مِنْ جَسَدِكَ وَتُقَدِّمَهَا لِلْجُمْهُورِ طَوْعًا. كَانَ يَذُوبُ فِي الأُغْنِيَةِ كَشَمْعَةٍ تُضِيءُ بِمَادَّتِهَا الذَّاتِيَّةِ، وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: “خُذُوا مِنِّي مَا تَبَقَّى.. فَأَنْتُمْ أَوْلَى بِقَلْبِي مِنِّي”.
“أَغَانِيهِ.. لَيْسَتْ كَلِمَاتٍ تُسْمَعُ، بَلْ جِرَاحٌ تُلْمَسُ”
– “مَقَادِيرُ”: سِيرَةُ كُلِّ إِنْسَانٍ خُذِلَ بِوَعْدٍ لَمْ يَكْتَمِلْ.
– “زَمَانُ الصَّمْتِ”: حِكَايَةُ مَنْ أُغْلِقَ عَلَيْهِ بَابُ الأَمَلِ.
– “اللهُ يَرُدُّكِ لِي”: صَرْخَةُ رُوحٍ تَعْرِفُ أَنَّ الفِرَاقَ مَوْتٌ مُؤَقَّتٌ.
“الرَّحِيلُ … أَقْدَارٌ كَتَبَتْ بِمَاءِ اَلْعُيُونِ …
سَقَطَ وَهُوَ يُغَنِّي.. سَقْطَةُ المَلَاكِ الَّذِي أُنْهِكَ مِنْ حَمْلِ كُلِّ هَذَا الجَمَالِ! لَمْ يَمُتْ طَلَالٌ.. لَقَدِ انْتَهَى التَّعَبُ فَقَطْ، أَمَّا صَوْتُهُ فَصَارَ:
– نَسِيمَ المَسَاءِ فِي شُرُفَاتِ الحَالِمِينَ.
– حَنِينَ الأُمَّهَاتِ فِي غُرَبَاتِ المُغْتَرِبِينَ.
– دَيْنَ العَالَمِ العَرَبِيِّ الَّذِي لَنْ يُسَدَّدَ أَبَدًا.
“الخَاتِمَةُ: رِسَالَةٌ إِلَى الأَرْضِ”
“يَا تُرَابَ الحِجَازِ.. لَقَدْ أَخَذْتَ جَسَدَهُ، وَلَكِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ أَبَدًا أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ:
– ذَلِكَ الصَّوْتَ الَّذِي صَارَ جُزْءًا مِنْ نَبْضِ الكَوْنِ.
– ذَلِكَ الإِرْثَ الَّذِي يُذَكِّرُنَا بِأَنَّ الفَنَّ الحَقِيقِيَّ هُوَ دَمْعَةٌ تَتَحَوَّلُ إِلَى نَشِيدٍ.
فَإِذَا سَأَلْتَنِي يَوْمًا: هَلْ يَمُوتُ العُظَمَاءُ؟
سَأَقُولُ لَكَ: إِنَّهُمْ يَغِيبُونَ كَالْجَسَدِ.. وَلَكِنَّهُمْ يَبْقَوْنَ كَالْعَبَقِ..
كُلَّمَا مَرَّتْ رِيحٌ عَطِرَةٌ تُذَكِّرُنَا: كَانَ هُنَا.. وَمَا زَالَ!”