كتب … حميد بركي
ذاكرة حبّ وإحترام …
حين أعود بذاكرتي إلى سبعينيات القرن الماضي، تطلّ عليّ لحظات لا تُنسى، صنعت الكثير من ملامح شخصيتي. كنتُ فتى صغيرًا في حي الأندلس بالدّار البيضاء، يشدّني الشّغف بالقوة والإنضباط، ويدفعني الطّموح إلى أنّ أكون شيئًا مميزًا في زمنٍ كان فيه فن الكراطي نادر الإتقان، لا يحترفه إلا القليل.
كنتُ أقطع المسافات إلى سيدي معروف، حيث كان أستاذي المرحوم جلول، ذلك الرّجل الصّارم في مظهره، النّبيل في جوهره، يغرس فيّ أولى بذور القتال الشّريف. ولكن ما لا يعرفه كثيرون أن أول من علّمني سرّ “اللّكمة” لم يكن رجلًا… بل إمرأة. إبنة أستاذي جلول، كانت شابة خارجة عن مألوف زمنها، تتقن من فنون القتال ما يعجز عنه كثير من الرّجال، وتملك فراسة تُشبه البصيرة، تقرأ جسدك كما لو أنها تترجم ما لم يُقل.
كانت تُعلّمني ببراعة هادئة، تعرف كيف تستخرج مني القوة الكامنة، وكيف تهذبها. علّمتني كيف أضبط إنفعالاتي، كيف أوجّه قوتي، وكيف أتحكم في ذاتي قبل أنّ أواجه خصمي. لم تكن لحظات التّدريب معها مجرّد تمارين عضلية، بل كانت درسًا عميقًا في إدراك الذّات، ومقدمة لصقل الرّوح قبل الجسد. كنت أعود من سيدي معروف أشعر أنّني إقتربت أكثر من نفسي، وأنّني بدأت أفهم معنى أنّ تكون مقاتلًا لا بالعنف، بل بالحكمة والسّيطرة.
وفي بداية الثّمانينيات، لم أتجاوز بعد ثلاثة أشهر من التّمرين حتى بدأت مرحلة جديدة على يد الأستاذين مول الفردي وعبد الغني رشيد، اللّذين كانا مثالين في العطاء. تعلمت على يديهما أسرار الرّكلات، وكيفية إستخدام الرّجل بمرونة وقوة. وكان أستاذي عبد الغني رشيد شخصية فريدة، فنانًا في الموسيقى ومطربًا، ومتمكنًا في فنون القتال، مما منحني فهمًا مختلفًا، فقد أضاف إلى تدريبي بُعدًا جديدًا: الإيقاع. صرت أتعامل مع القتال كأنّني أؤدي رقصة منضبطة، لكلّ حركة نغمتها، ولكلّ ركلة توقيتها.
ولم تمضِ سوى سبعة أو ثمانية أشهر حتى حزت على الحزام الأسود. نعم، في عام واحد فقط كنت قد وصلت إلى ما يحتاجه غيري إلى خمس أو حتى عشر سنوات لتحقيقه. لكنّني لم أكن وحدي في هذا الطّريق، فقد سبقني إلى المجد أولئك الّذين أمسكوا بيدي، ووجّهوني، وآمنوا بي.
اليوم، حين يقال إنّني كنت من أحسن شباب جيلي في الكراطي، أبتسم بصدق، لأنني أعرف أن خلف هذه المكانة تقف إمرأة علّمتني أولى اللّكمات، وأستاذ زرع فيّ روح الفروسية، وأساتذة صاغوا خطواتي بإيقاع الفن والقوة.
ولهم جميعًا أقول من القلب: شكرًا. لن أنسى فضل أستاذي جلول، وإبنته الّتي كانت أوّل معلمة في حياتي، ولا أستاذَيّ مول الفردي وعبد الغني رشيد. إنهم من أحبّ المعلمين إلى قلبي، وهم جزء من قصتي الّتي ما زلت أرويها كلما سُئلت: “من علّمك أن تكون مقاتلًا؟”
كتب … حميد بركي