العرب في المغرب ليسوا طارئين كما يروّج له بعض الخطابات المعاصرة الّتي تسعى بشكل مقصود أو غير مقصود إلى فصل المغرب عن عمقه العربي والإسلامي. فالتّاريخ، إذا قرئ بعين الحقيقة لا بعين الأهواء، يكشف أنّ الوجود العربي في المغرب متجذّر ومتعدّد المراحل، وأنّ العرب لم يأتوا كمستعمرين بل كحملة لرسالة الإسلام، وحضارة، ولغة، وهوية.
بدأ الفتح الإسلامي للمغرب منذ منتصف القرن السّابع الميلادي على يد الصّحابي الجليل عقبة بن نافع، الّذي لم يكن مجرّد قائد عسكري بل مبشّر بدين جديد يوحّد بين الناّس على أساس العقيدة لا العرق¹. وقد أكمل الفتح موسى بن نصير، الّذي استقرّ الإسلام بفضل قيادته في مناطق شاسعة من المغرب، ولم يكن الفتح بالسّيف المجرّد بل بالحكمة والمخالطة والمصاهرة والدّعوة بالحسنى.
ولم يكن مجيء العرب إلى المغرب قاصرا على الفتح فقط، بل كانت هناك هجرات متتابعة، أحيانًا فرديّة، وأحيانًا جماعيّة، من مختلف قبائل جزيرة العرب. وعندما جاء إدريس بن عبد الله، مؤسس الدّولة الإدريسيّة، لم يكن وحده، بل تبعته قبائل عربيّة شريفة استقرّت وتزاوجت واندمجت مع سكان البلاد². بل إن إدريس الأول نفسه تزوّج من امرأة أمازيغية من قبيلة أوربة، فانصهرت السّلالات وتداخلت الأنساب، ولم يعد هناك فصل بين عربي وأمازيغي إلّا في الذّهن العنصري الّذي ينزع للفرقة بدل الوحدة.
ابن خلدون، الّذي هو من أعمدة التّاريخ الاجتماعي العربي الإسلامي، كتب قائلاً: “عجبتُ لحاحة كيف تبربرت، ودكالة كيف تعرّبت”³، وهي جملة تكشف أنّ مسألة العرق والانتماء اللغوي ليست ثابتة، بل تتغيّر بحسب الثّقافة السّائدة، ومجال التّأثير، والمحيط الاجتماعي، واللسان الغالب. فما بال الّذين يزعمون نقاءً عرقيًّا خالصًا في سياق ثقافي تمازجي بطبعه؟
وقد كتب الفقيه والمؤرخ المغربي أحمد بن خالد النّاصري في كتابه الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى عن انتشار القبائل العربيّة الهلاليّة والمعقليّة والصّنهاجيّة وغيرها، وكيف أن هذه القبائل أسهمت في تعريب المغرب على مدى قرون، خاصّة في عهد الموحّدين والمرينيين والسّعديين⁴. وهؤلاء السّعديون – وهم من الأشراف العرب – أسّسوا دولة قويّة لم تفرّق بين العربي والبربري، بل اعتبرت وحدة العقيدة هي أساس المواطنة.
أمّا القول إن أغلب من يطلقون على أنفسهم اسم “أمازيغ” اليوم من أصول عربيّة، فله أساس واقعي مبني على تداخل الأنساب عبر القرون، فليس هناك نقاء عرقي بالمفهوم الحديث. وقد كتب المؤرخ الفرنسي شارل أندري جوليان في كتابه تاريخ إفريقيا الشّمالية أنّ الاختلاط بين العرب والبربر كان من أقوى مظاهر المغرب، حيث أنّ القبائل لم تعد قادرة على التّمييز العرقي إلا عبر اللسان أو النّسب، بينما الواقع يشهد بتداخل كامل⁵
وقد أشار المفكر المغربي عبد الله العروي إلى أنّ الصّراع الّذي يروّج اليوم بين “العربية” و”الأمازيغية” هو صراع مصطنع، إذ أنّ الجميع انخرط في المشروع الإسلامي الحضاري منذ قرون. واعتبر أنّ من يبحث عن “هويّة نقيّة” إنّما يهرب من الواقع المركّب للمغرب، حيث لا يمكن فصل العربي عن الأمازيغي لأنّهما نسيج واحد⁶.
ومن ناحية لغويّة، فقد أثبت علماء اللغة أنّ انتشار العربيّة في المغرب لم يكن قسريًّا، بل كان نتيجة تلقائيّة لكونها لغة الدّين والدّولة، ولفصاحتها وقدرتها التّعبيريّة العالية، وقدرتها على التّماهي مع الألسن المحليّة، ما أنتج لهجات مغربيّة لها جذور عربيّة عميقة، حتّى في المناطق الّتي تكلّم البربريّة.
العرب في المغرب ليسوا أقليّة طارئة، ولا فوقيّة استعماريّة، بل هم أحد أعمدة الهويّة الوطنيّة، كما أنّ الأمازيغ مكوّن أصيل. المغرب لا يقوم إلّا بهما معًا. والّذين ينفون عروبة المغرب يفصلونه عن محيطه الحضاري ويغذّون خطاب الانقسام، بينما المغرب عبر تاريخه كان موحَّدا بالعقيدة، منفتحًا على كلّ روافده، وموصولا بلسان عربيّ فصيح اختاره أهله طواعيّة لا قسرًا.
وقد كتب ابن رشد مقولته الشّهيرة: “لو سكت من لا يعلم لسقط الخلاف”، وهي مقولة تصلح لكلّ زمان، خصوصًا حين يعلو فيه صوت الجهل ويُزاحم العلم، ويتكلّم من لم يقرأ التّاريخ ولم يعايش وقائعه. العاقل هو من يبني على المشتركات لا المفترقات، ومن يرى في العربيّة والأمازيغيّة جناحين لطائر واحد اسمه المغرب، لا خصمين متنازعين على مساحة أرض واحدة، ولا ننسى النّصف الأوّل من القرن العشرين، إذ عمل المستعمر الفرنسي على إذكاء نار الصّراع بين المكوّنين العربي والأمازيغي بالمغرب، في إطار سياسة استعماريّة خبيثة قوامها “فرّق تَسُد”، أي إذا فرّقتَ بين الإخوة سُدّتَ عليهم. ومن أبرز تجلّيات هذه السّياسة إصدار “الظهير البربري” سنة 1930، الّذي سعى إلى تقسيم المغاربة على أسس عرقيّة وثقافيّة، عبر إقصاء التّشريع الإسلامي من مناطق الأمازيغ وتعويضه بالقوانين العُرفيّة الخاضعة لإشراف الإدارة الفرنسيّة.
غير أن وعي المغاربة بخطورة هذه المؤامرة كان أكبر من مخطّطات المستعمر، فقد هبّوا جميعًا – عربًا وأمازيغ – ضدّ هذا الظّهير المشؤوم، وكان من أبرز مظاهر رفضهم الحملة الدّعويّة الشّعبيّة في المساجد، المتمثّلة في تلاوة دعاء “يا لطيف” الشّهير، الّذي تحوّل إلى رمز لوحدة الصّف الوطني.
ورغم أنّ المغرب تجاوز هذه المرحلة بموقف وطنيّ موحَّد، فإنّ بعض بقايا هذه الفتنة لا تزال تُستغلّ إلى اليوم من قِبل أعداء الوحدة التّرابيّة، ممّن يسعون إلى إحياء الانقسامات واستغلالها سياسيّاً وثقافيّاً.
لهذا، فإنّ من أراد الحقّ فليقرأ التّاريخ من مصادره، وليستمع للعلماء لا للمزايدين، ولينظر في عيون المغاربة الّذين صاغوا هويّتهم من التّنوّع لا من الانغلاق، ومن الحكمة لا من العصبيّة، ومن المحبّة لا من الكراهيًة.
….
الهوامش:
- الطبري، تاريخ الرسل والملوك، جـ5، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.
- عبد الوهاب بن منصور، الدولة الإدريسية، الرباط، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.
- ابن خلدون، المقدمة، دار الفكر، بيروت.
- أحمد بن خالد الناصري، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، دار الكتاب، جـ2.
- Charles-André Julien, Histoire de l’Afrique du Nord, Paris, Payot.
- عبد الله العروي، الإيديولوجيا العربية المعاصرة
Discussion about this post