كانت ذات يوم صبحا أمام محطة الحافلات – وهي تستعد للذهاب إلى عملها – تبكي بحرقة ودموعها تنهمر انهمار مياه شلالات نياجارا، وقوائمها ترتعد، وهي ترتعش وتتمتم بكلمات غير مفهومة، وتغص غصا متتابعا من حين لآخر حتى أن كلماتها كانت تخرج متقطعة وغير مسترسلة…
فقد كانت تقرأ مكتوبا – للمرة الألف تقريبا – وصلها قبل الكارثة بأيام قليلة، كان بإمكانها تجنب ما حدث لو أنها تصرفت بحكمة وعقلانية وتنحت عن نرجسيتها وأنانيتها المفرطة التي كانت نهايتها وخيمة، درامية، وماساوية إلى أبعد الحدود…
فقرأت بصوت مسموع ” حبيبتي نور
أكتب لك هذه الرسالة وكلي أمل في صفحك ومغفرتك وتجاوزك لما نشب بيننا مؤخرا من مشاكل كنت أنا سببها الرئيسي عن قصد أو دونه، فقد غرني الشيطان ودفعتني نفسي الأمارة بالسوء إلى التعرف على غيرك من النساء، وولدت بيننا علاقة محرمة وغير شرعية كشفتيها أنت وضبطتينا متلبسين في منزل اكتريناه للغرض ولم تلتجئي للقضاء وهذا أمر أشكرك عليه جزيل الشكر.
لكنك في المقابل، رفضت كل محاولات الإعتذار ولم تسمعي لي – ولك الحق في ذلك رجوعا إلى الذنب المقترف – ولم تعطني فرصة ثانية لأكفر عن ذنوبي و أعيد تشييد ما تحطم في علاقتنا حفاظا على عائلتنا الصغرى التي دمرتها في لحظات لهو ومجون وعصيان ونزوة شيطانية عابرة ظالمة، وغادرت عش الزوجية دون رجعة رغم تدخل القريب والبعيد …
ومنذ ذاك الوقت توقف عندي الزمن، وذبلت الأرض وشحت من كل شيء، أظلم الوجود وبكت السماء ليلا ونهارا على حالتي التي تدهورت إلى أن أفل جسدي وتهاوي ،وغزته الأمراض ونال منه الوهن، تصحرت العيون من كل دمع وتهالكت كل مكوناتي إلى أن صرت جثة هامدة على وجه الأرض، بل جسدا بلا روح….
و طلقني الكون، وجفاني من فيه، هجرتني الحروف وامتنعت الأوراق عن تحمل جملي وعباراتي ومشاعري، فر مني قلبي دامعا وهو ينطق باسمك باستمرار، تعطل عقلي وفقد نكهة التفكير والتعقل، مات من كان سبب هذا الحدث الجلل ولم أعد أشعر بوجوده بين ساقي….
وبالتالي، فإني أجدد التماسي وطلبي راجيا منك العفو والمغفرة وتنظيف ما تصدأ واهترأ قبل فوات الأوان، فأنا ميت بهذه الطريقة وانتظر بعث الحياة في مجددا وإلا فسأضع حدا لوجودي بعد أن أمسى بلا فائدة…. “
ثم تنهدت، نظرت يمنة ويسرة قبل أن تهمس بصوت خافت، ودموعها تسقي الأرض” أحبك يا أنور حبا أعمى أعماني عن كل تعقل وتوازن، سامحني يا حبيبي وإن كان الندم لا ينفع الآن بعد أن رحلت عني للأبد “
و أطلقت العنان إلى الماضي التليد لتتذكر حوارها مع أنور أيام الفرح والسعادة رغم مرارة الواقع وحرمان القدر لهما من الولد الصالح بعد أن تبين – بعد الفحوصات والتحاليل- عقمها وعدم قدرتها على الإنجاب، ومع ذلك فقد كان الحب ابنهما الحاضر بينهما في كل آن وحين :
-… غطى نورك المشع أشعة الشمس وأظفى علي حرارة تتجاوز حرارتها بمراحل، فولج دواخلي وأشعل براكينها الملتهبة
– (مقهقهة ومقاطعة برقة وحنان وهي تمسكه من رقبته وتقبله قبلة حارة) اصمت أيها الشقي، فقد أرديتني قتيلا في حبك وزعزعت كياني…
– (مسمرا نظره في عينيها وهو يلامسها من كل مكان) أحبك يا حياتي، فأنت سر وجودي ومصدره، أنت روحي ونفسي التي أحيا بها….
ومازالت تستمتع بهذا الحوار الذي أرجعها إلى سنوات عديدة حتى انفجرت مجددا بالبكاء وصاحت عاليا ” لماذا انتحرت يا حبيبي ولم تمهلني مزيدا من الوقت؟ لماذا خسرت الدنيا والآخرة وتركتني أتألم وأشعر بتأنيب الضمير بقية حياتي؟ لماذا تركتني وحيدة وقد وعدتني بالخلود والوفاء وتواصل الود بيننا؟…”
وما هي إلا لحظات حتى فقدت نور الوعي وسقطت أرضا مغميا عليها، وهرع جمع من الحضور لنجدتها في انتظار حضور سيارة الإسعاف وتولي طاقمها مهمة إسعافها.
وبعد تلك الحادثة تدهورت حالتها وتعكرت، تأزمت نفسيتها ودخلت في حرب ضروس مع نفسها ومع كل من يحيط بها، تكررت أحداث هذا السرد مرارا وتكرارا، وظلت نور كذلك سنوات وسنوات إلى أن التحقت بزوجها بعد أن نال منها الوهن والأرق و الإغتراب ….
Discussion about this post