بقلم الدكتور … عاطف معتمد
الكرنفال المبهج في “بنات بحري”
تعرف هذه اللوحة للفنان المصري العالمي محمود سعيد (1897-1964) باسم “في المدينة” وقد رسمها في عام 1937.
والمدينة المقصودة هنا هي الإسكندرية. ولم يكن الفنان في حاجة لأن يعطي الاسم كاملا لأن الناظر عارف لا محالة أن المشهد في الإسكندرية لا في القاهرة أو أية مدينة عالمية أخرى.
أما اسم “بنات بحري” فهو الاسم الشائع للجزء الأوسط من اللوحة الذي يبين ثلاث فتيات في الزي الشعبي لتلك الفترة.
و”بحري” هنا هو ذلك الشطر من مدينة الإسكندرية القريب من الجمرك وميناء صيد الأسماك وبه كل المعاملات التجارية والدولية والنشاط الأهلي أو البلدي.
غير بعيد عن مشهد اللوحة يجب أن نقابل مصب ترعة المحمودية التي اندثرت اليوم، وعلى مرمى حجر الميناء الشرقي وحي الجمرك، وحي القناصل الشهير باسم المنشية.
إذا قلنا “بحري” فنحن نقصد الإسكندرية البطلمية التي أسسها الإسكندر الأكبر، فالإسكندر هو الذي أمر هنا بمد جسر بري (هيبتاستاديون) بين المدينة وجزيرة فاروس لتحاكي الموانئ الفينقية واليونانية.
لو زرت هذه المنطقة اليوم فلن تجد فيها ذلك المشهد الكرنفالي البهيج.
لقد حشد الفنان المبدع كل الألوان النابضة في صورة واحدة. ويمكن تقسيم اللوحة بصريا إلى عدة مشاهد:
– بائع العرقسوس الذي يحمل ملامح أسوانية أو نوبية، وقد أعطاه الفنان ملامح وسطية ما بين جدية العمل وسماحة البيع والشراء.
– رجل يمتطي حمارا ويحمل طفلا معلقة عيناه ببائع العرقسوس. تشبه ملامح الرجل نسخة بالكربون من ملامح إخناتون في بعض تصاويره في تل العمارنة في المنيا. يجلس الرجل على هيئة غريبة تناسب جلوس السيدات لا الرجال، وقد زين رأس حماره بعلامة خمسة وخميسة اتقاء لعيون الحاسدين.
– ثلاث فاتنات رشيقات هيفاوات، يتصدرن الصورة في أزياء شعبية مزركشة تجمع تلك الفتنة المتناقضة التي تمسك بالاحتشام من ناحية وإظهار المفاتن من ناحية أخرى، وتزاوج ذلك السحر الشرقي لدى المرأة التي تبدي تمنعا وانصرافا بعيون حوراء بينما كل شيء يقول إنها تنتظر الثناء والإطراء والإعجاب.
– كومبارس من بعض نساء يحملن أواني المياه الفخارية لحمل الماء العذب ربما من مكان قريب من ترعة المحمودية أو مصدر مركزي لمياه الشرب.
– تلال مرتفعة في خلفية الصورة اختفت اليوم تماما من الإسكندرية وكانت عالية بمناسيب 30 مترا قبل أن تهدمها المحاجر وتسوى بها الأرض وتصبح الإسكندرية اليوم “مسطحة” شكلا ومضمونا.
– الميناء البحري وفيه مراكب متواضعة للصيد ملأت أشرعتها البيضاء رياح شمالية.
واللوحة صورة ديناميكية عامرة بالحركة، الكل يتحرك في اتجاهات مغايرة ليصنع ذلك التدفق في الصورة، والألوان الحارة أو الساخنة أضفت بعدا ثالثا للطاقة المنبعثة من الأجساد والأرواح.
تعجبني هذه اللوحة لثلاثة أسباب:
– أنها تذكرني بفعل “يكتب لوحة” في اللغة الروسية الذي يقصد به في لغتنا العربية “يرسم”، تستخدم اللغة الروسية تعبير “يكتب لوحة” لأن الفنان هنا مؤلف عبقري ابتدع واخترع خلقا من العدم وكتب المشهد الإنسان والأرضي.
– أن مرور ما يقرب من 90 سنة على هذه اللوحة يجعلها – وفقا لزملائنا في المدرسة الجغرافية الفرنسية – مادة أرشيفية لا تقل أهمية عن الوثيقة والخريطة القديمة للتعرف على الماضي الذي تغير جذريا اليوم. صحيح أن هذا عمل فني وليس خريطة علمية، وفيه رؤية الفنان الذاتية، لكنها تبقى محتفظة بما لا يمكن التعرف عليه إلا منها دون سواها.
– الشهر الماضي طفت بذلك الشطر من المدينة، مررت بمنطقة بحري، وعرجت على مينا البصل، فوجدت تمثالا قبيحا لبنات بحري مشطور نصفين ومهمل على قارعة الطريق، رأيت أيضا ترعة المحمودية وقد طمرت وردمت أو تلفظ أنفاسها الأخيرة، لم أجد بالطبع تلك التلال العالية التي يقف مسجد وقور أو ضريح مبارك فوق قمتها.
تذكرت محمود سعيد، عبرت الجسر فوق مستودع السكة الحديد القديمة، وليت وجهي شطر سيدي القباري رغبة في الكتابة عنه وقد طال به الإنتظار…
Discussion about this post