رؤية نقديّة لرواية الكونت دي كريستو
ألكسندر دوما
الناقد/ محمد جمال ريحاوي
تبدأ الرّواية في عام 1815، يوم عودة السّفينة الفرنسيّة فرعون إلى ميناء مرسيليا بعد رحلة طويلة. على متنها إدموند دانتس، شاب في التّاسعة عشرة من عمره، ذكيّ، أمين، محبوب من طاقمه، وقد اختاره قبطان السّفينة المحتضر ليخلفه في القيادة.
تبدو الحياة أمام دانتس مشرقة: خطيبته ميرسيدس تحبّه حبًا نقيًّا، ووالده العجوز ينتظره في داره الفقيرة بفخرٍ كبير.
لكن خلف هذا النّور، كانت الخيانة تُحاك في الظّلام.
فـفرناند موندغو، الّذي يحبّ ميرسيدس في صمتٍ مريض، يحسد دانتس على حبّها له.
ودانغلار، كاتب السّفينة الطّامح إلى مكان دانتس، يكره صعوده السريع.
وكادروس، جاره السّاذج الغيور، يراقب الأحداث بغيرةٍ مكتومة.
هؤلاء الثّلاثة يجتمعون، وتحت تأثير الحسد يصنعون مؤامرةً صغيرة
يكتبون رسالةً كاذبة يتّهمون فيها دانتس بأنه وكيلٌ لوكيل نابليون بونابرت، وأنّه يحمل رسالةً خفيّة إلى البونابارتيين في باريس.
في اليوم التّالي لخطوبته من ميرسيدس، يُعتقل دانتس بناءً على تلك الرّسالة، ويُستدعى أمام المدّعي العام جيرار دو فيلفور.
يكتشف فيلفور أثناء التّحقيق أن الرّسالة موجّهة إلى والده نوارتير، وهو من الملكيين المعارضين للحكومة الجديدة، فيخشى أن يورّط اسمه فيفضح أمره، فيقرّر أن يضحي بدانْتس ليُنقذ نفسه، فيمزّق جزءًا من الرّسالة ويرمي الشّاب البريء في سجن قلعة إيف بلا محاكمة.
تمرّ السّنوات ثقيلة في ظلمة الزّنزانة، ويفقد دانتس الأمل، حتّى يسمع يومًا صوت حفرٍ قادم من جدار الزّنزانة.
إنه سجين آخر هو الأب
فاريّا، راهب عالم قضى سنواتٍ طويلة في الأسر، يحاول الهرب عبر نفقٍ أخطأ طريقه.
يتعرّف الرّجلان، ويبدأ فاريّا بتعليم دانتس اللّغات والعلوم والفلسفة، ويكشف له عن #كنزٍ هائلٍ مخبّأ في جزيرة مونتي كريستو، ورثه عن عائلةٍ نبيلة.
لكنّ الأب فاريّا يموت قبل أن يتمكّن من الفرار، تاركًا المفتاح إلى الحكمة والكنز في يد تلميذه.
حين يموت الرّاهب، يضع دانتس جسده في كيس الموتى، ويستبدله بنفسه، فيُلقى به من فوق الأسوار إلى البحر، وهناك ينجو سباحةً، حرّاً بعد أربعة عشر عامًا من الأسر والظّلم.
يتّجه إلى جزيرة مونتي كريستو، فيعثر على الكنز الأسطوري، ويصبح من أغنى رجال العالم.
ومنذ تلك اللّحظة يولد شخصٌ جديد: الكونت دي كريستو، رجل غامض، أنيق، شديد الذّكاء، لا يعرفه أحد ولا يعلم أحد عن ماضيه.
وقد أقسم أن ينتقم من كلّ من خانوه، وأن يجازي كلّ من أحسن إليه.
يبدأ بتتبّع الماضي:
يعرف أن والده مات جوعًا بعد سجنه، وأن ميرسيدس تزوّجت من #فرناند الّذي أصبح الآن الكونت دي مورسر، رجلًا ذا نفوذٍ في باريس.
ويكتشف أن دانغلار صار مصرفيًّا ثريًّا، وأن فيلفور أصبح نائبًا عامًّا مشهورًا، وأنّ كادروس يعيش فقيرًا في ريف مرسيليا.
يبدأ الانتقام بذكاء لا بعنف، كما لو كان قدرا إلهيا يعمل في صمت.
فيكافئ أوّلًا من أحسن إليه
عائلة موريل، مالك السّفينة الّذي حاول إنقاذه قديما — فينقذهم من الإفلاس بهديّةٍ سرّية، دون أن يعرفوا أنّه دانتس.
ثمّ يتّجه إلى باريس، متخفّيًا تحت أقنعةٍ متعدّدة: الكونت دي كريستو، القسّ بوزوني، البحّار سينباد، وغيرهم.
ينشئ شبكةً من الخدم المخلصين، منهم برتلوتشي وهايدي، الفتاة اليونانيّة الّتي حرّرها من العبوديّة وأحبّته حبًّا روحيًّا عميقًا.
الكونت يبدأ في تفكيك أعدائه واحدًا تلو الآخر:
دانغلار يخسّره ماله وشرفه حين يورطه الكونت في سلسلة من المضاربات الماليّة الوهميّة حتّى يُفلس تمامًا.
فرناند موندغو يُفضَح أمام الجميع حين يكشف الكونت خيانته القديمة لعلي باشا يانينا، والد هايدي، الّتي تشهد ضدّه علنًا. فيُنبذ فرناند من المجتمع، #وينتحر برصاصةٍ في رأسه، بعد أن تهجره زوجته ميرسيدس ويحتقره ابنه.
فيلفور يُدمَّر من الدّاخل حين يكشف الكونت عن جرائمه العائلية، إذ فضح علاقاته القديمة وهروبه من العدالة، وأبرز له نتائج طموح زوجته هيلويز الّتي سمّمت أهل البيت واحدًا تلو الآخر لتوريث ابنها، حتّى أصيب في النّهاية بالجنون بعد أن فقد عائلته كلّها.
كادروس يُعاقب من نفسه؛ يقتله شريكه بعد سلسلةٍ من الجرائم الصّغيرة، بعد أن اعترف بخيانته لدانتس.
وفي خضمّ هذا الطّوفان، تبقى ميرسيدس شاهدةً على المأساة. حين تلتقي دانتس بعد أن عرفت هويّته، لا تطلب منه سوى الرّحمة.
حينها يشعر الكونت بأن الله لم يخلقه إلهًا ليعاقب النّاس، بل إنسانا ليغفر، فتبدأ داخله رحلة التطهير من الانتقام إلى الغفران.
في الجزء الأخير من الرّواية، تتشابك الأحداث بين الحبّ والموت والعدالة.
يقع ماكسيمليان موريل في حبّ فالنتين دي فيلفور، الفتاة الطيّبة الّتي حاولت زوجة أبيها قتلها بالسّمّ، لكن الكونت ينقذها في آخر لحظة، ويُخفيها في داره ليجعل الجميع يظنّون أنّها ماتت.
حين يكتشف ماكسيمليان الحقيقة، يُدرك أنّ الكونت لم يكن شيطان الانتقام، بل رسول العدالة الإلهيّة.
وفي النّهاية، وبعد أن استوفى القدر نصيبه، يقرر الكونت مغادرة أوروبا.
يترك ثروته لمن يستحقّونها، ويكتب رسالةً إلى ماكسيمليان وفالنتين يقول فيها:
انتظرْ وتعلّم أن تأمل
ثم يرحل مع هايدي، تلك الّتي أحبته بلا ماض ولا شرط، إلى أفق مفتوحّ، حيث البحر والسكينة، بعد أن ترك وراءه عالماً تعلّم من خلاله أنّ الانتقام لا يشفي، بل الرّحمة وحدها تمنح الخلاص.
هكذا تنتهي الرّواية لا كقصة انتقام فحسب، بل كرحلة روحيّة من الجحيم إلى الصّفاء.
إدموند دانتس بدأ إنسانا بسيطا، صار سجينا مظلوما، ثمّ وكأنّه قدرٌ منتقماً ثمّ عاد — في النّهاية — إنسانا يعرف أنّ العدل الحقيقيّ لا يكتمل إلّا بالمغفرة.
محمد جمال ريحاوي






































