بقلم: سلمى صوفاناتي
على شواطئ النّيل الأزرقِ، حيث تتهادى أشعّة الشّمسِ كخرزاتٍ ذهبيّةٍ على صفحةِ الزّمنِ، تقف كليوباترا السّابعةِ بجلالٍ آسِرٍ، كفكرةٍ تجسَّدت في هيئةِ امرأةٍ، تمعن النّظرِ في العالمِ بعين العقلِ قبل أن تلمحه بومضةُ القلبِ. ليست مجرّدَ ملكةٍ حفر التّاريخِ اسمها بين سطورهِ، بل هي سيمفونيّةٌ باذخةٌ من الذّكاءِ والجمالِ، تتناغم فيها أنغامُ السّياسةِ مع إيقاعاتِ الحيلةِ، وترتقي فيها العاطفةُ على سلّمِ الطّموحِ، وتتلاقى الحكمةُ مع القوّةِ في رقصةٍ خالدةٍ.
منذ أن ارتدت تاج الملكِ، أدركت أنّ الحكمَ ليس مجرّدَ إكليلٍ يزيّن الجبينِ، بل هو قرارٌ يتجدّد بين ضبابِ المكائدِ وواقعِ السّلطةِ. شقيقها الأصغرُ، بطليموس الثالثَ عشرِ، لم يكن خصمًا عابرًا، بل كان مرآةً لعنفوانها المكبوتِ، صراعًا بين القوّةِ والحاجةِ إلى الاعترافِ. وعندما حلَّ يوليوس قيصرٍ في مصرِ، لم ترَ فيه فارسًا غراميًّا أو قائدًا عسكريًا فحسبِ، بل رأت أداةً سياسيّةً محكمةً، جسرًا لتحقيقِ الاستقلالِ، وعقدةً زمنيّةً في نسيجِ التّوازنِ العالميِّ.
وأبت أن يكون ابنها قيصرونَ مجرّدَ وريثٍ للعرشِ، بل جعلته عنوانًا جديدًا في سفرِ الخلودِ، رمزًا للامتدادِ بين حضارتينِ، وشاهدًا على حكمةِ الأمِّ الّتي نسجت من الماضي مستقبلًا. لقد علمت أنّ القوةَ الحقيقيّةَ لا تُقاس بحدِّ السّيوفِ، بل بقدرةِ العقلِ على كنْهِ أغوارِ النّفوسِ، واقتناصِ اللّحظاتِ الّتي يهبها القدرُ على أجنحةِ الفرصِ الذّهبيّةِ.
ومع مارك أنطوني، خطّت ملحمةً أخرى من ملاحمِ السّلطةِ، لم تكن مجرّدَ قصّةِ حبٍّ عابرةٍ، بل كانت درسًا في فنِّ القيادةِ، حيث يتحوّل الانتصارُ إلى قدرةٍ على المناورةِ بين نبضاتِ القلبِ وهواجسِ العقلِ، بين العاطفةِ الجيّاشةِ والطّموحِ المحتدمِ. في قصورها الذّهبيّةِ، وعلى ضفافِ النّيلِ المتقلّبةِ، أدركت أنّ الزّمنَ نفسه سلاحٌ يُشحذ بالصّبرِ، وأنّ كلَّ حركةٍ سياسيّةٍ، وكلّ كلمةٍ موزونةٍ، هي لبنةٌ في صرحِ المستقبلِ.
ولم يكن ذكاءُ كليوباترا مقتصرًا على السّياسةِ أو الدّبلوماسيّةِ، بل كان يمتدّ إلى عمقِ الثّقافةِ والفنِّ والعلمِ، حيث كانت تجلس بين كتبِ الحكمةِ والفلاسفةِ، وتستمع إلى الشّعراءِ والعلماءِ كما تستمع إلى الموسيقى الّتي تهزّ الرّوحَ، مدركةً أنّ العقلَ لا يزدهر إلّا بالمعرفةِ، وأنّ القوّةَ بلا فهمٍ تذوي كالزّهرةِ الّتي تفتقد للماءِ. لقد فهمت أنّ القيادةَ الحقيقيّةَ تبدأ من الدّاخلِ، من إدراكِ الذّاتِ قبل إدراكِ الآخرينِ، ومن صقلِ الشّخصيّةِ قبل صقلِ المملكةِ، وأنّ النّفوذَ الأسمى لا يُقاس بما يملك المرء من جيوشٍ أو ذهبٍ، بل بمدى قدرته على تحويلِ أفكارِ النّاسِ إلى طاقةٍ حيّةٍ تخدم المصلحةَ العليا، وتخلق توازنًا بين رغباتِ الأمّةِ وطموحاتِها. وفي هذا الصّرحِ الفكريِّ، كانت كليوباترا تمثّل المزيجَ الفريدَ بين الفلسفةِ والفنِّ والسّياسةِ، بين العقلِ والقلبِ، لتصبح ليست مجرّدَ حاكمةٍ على عرشِ مصرِ، بل رمزًا عالميًّا لما يمكن للعقلِ المتنوّرِ أن يحقّقه حين يُنصت للدّهاءِ والرّحمةِ، ويجعل من كلّ لحظةٍ تاريخيّةٍ درسًا خالدًا في فنِّ الحياةِ والقيادةِ والخلودِ.
لم تكن مصر في عينيها مجرّد ترابٍ وسواعدٍ، بل كانت مسرحًا للتّجربةِ الإنسانيّةِ، ومختبرًا لفنونِ الحكمِ، حيث تتعانق القوانينُ مع المرونةِ، ويتمازج الخوفُ مع المحبّةِ في بوتقةٍ واحدةٍ. كانت تعلم أنّ الولاءَ لا يُكتسب بالعنفِ وحده، بل بفنِّ الموازنةِ الدّقيقةِ بين القوّةِ والرّحمةِ، بين العدلِ والدًهاءِ. وفي هذه الفلسفةِ الرّاقيةِ، تتجلّى عبقريّةُ كليوباترا: الحاكمُ الحكيمُ ليس من يفرض سلطته بالحديدِ والنّارِ، بل من يحوِّل تقلّباتِ الدّهرِ إلى فرصٍ للخلودِ.
وحتّى في اللّحظةِ الأخيرةِ، حين أحاطت بها جيوشُ أوكتافيوس كالليلِ البهيمِ، ظلّت واعيةً كالفجرِ الصّادقِ، مؤمنةً أنّ الحياةَ ليست مجرّدَ بقاءٍ على العرشِ، بل هي صونٌ للكرامةِ، وحفظٌ للرّمزِ الّذي لا يموتُ. لم يكن انتحارها استسلامًا لليأسِ، بل كان تصريحًا فلسفيًّا ،أنّ حرّيّةَ الرّوحِ أسمى من قيودِ الجسدِ، وأنّ الخلودَ الحقيقيَّ لا يُبنى على الهزيمةِ، بل على اختيارِ النّهايةِ الّتي تليق بالأساطيرِ.
هكذا، تظلّ كليوباترا أكثر من مجرّد أسطورةٍ غراميّةٍ، إنّها إرثٌ من العقلِ والجمالِ، لوحةٌ إنسانيّةٌ رسمتها أناملُ القدرِ لتُذكّرنا أنّ التّاريخَ لا يخلد الأسماءَ، بل يخلد الأفكارَ الّتي تتحدّى الزّمنَ. كلّ خطوةٍ خطتها، كلّ كلمةٍ نطقت بها، كانت عقدًا في عقدٍ لا ينتهي، يُعلّمنا أنّ العظمةَ لا تُورثُ، بل تُكتسب بالحكمةِ، وأنّ الخلودَ ليس حكرًا على الآلهةِ، بل هو نصيبُ من يجعل من حياته قصيدةً تتناغم فيها إرادةُ العقلِ مع نبضاتِ القلبِ.
فهي لم تكن ملكةً فحسبِ، بل كانت فلسفةً متحرّكةً، وشعلةً من نورٍ لا تزال تشعّ عبر القرونِ، لتخبرنا أنّ مصر —وكلّ أرضٍ يحكمها العقلُ— ستظلّ أبد الدّهرِ شاهدةً على أنّ المرأةَ حين تكون عقلًا يتنفّسُ، ومبدأً يتحرّكُ، فإنّها تصنع من الزّمن تحفةً فنيةً، ومن التّاريخ أسطورةً لا تموتُ.






































