الجامعة كمؤسّسة خرساء ! موت الرّسالة وبقاء المهمّة !
بقلم … كريم بوخالفة باحث في علم الإجتماع …
من المفترض أنّ تكُون الجامعة مؤسّسة للعقل، وفضاءً لبناء الإنسان ، ومختبرًا للمعرفة الحية. هي ليست مجرّد مكان لتلقين المعلومة، بل مشروع حضاري متكامل، مهمته صناعة الوعي، وتحرير الفكر، وتكوين نخبة قادرة على القيادة الأخلاقية والمعرفية لمجتمعها. لكنّ في كثير من السّياقات العربية، ومنها الجزائر، تحوّلت الجامعة من حاملة لرسالة إلى مجرّد جهاز بيروقراطي بارد، يعيد إنتاج الرّداءة، ويُقصي الكفاءة، ويكافئ التّواطؤ بدل الإبداع.
المُهام الأصلية للجامعة:
إنّ مهمة الجامعة، وفقًا لما توافقت عليه النّماذج الأكاديمية الحديثة، تقوم على ثلاثة أركان رئيسية:
1. التّعليم والتّكوين: نقل المعارف والمهارات بشكل علمي، مع تعزيز التّفكير النّقدي والقدرة على التّحليل المستقل.
2. البحث العلمي: إنتاج المعرفة الجديدة، وإقتراح حلول مبتكرة للمشكلات الإجتماعية والإقتصادية والثّقافية.
3. خدمة المجتمع : الإرتباط بالبيئة الإجتماعية عبر مشاريع تنمويّة، وثقافية، وتنمويّة، وتوجيه السّياسات العمومية نحو الفاعلية والعدالة.
لكن هذه المهام تتحول في الواقع اليومي إلى شعارات مفرغة، يتم ترديدها في التّقارير الوزارية، بينما في العمق، تعاني الجامعة من إختناق وظيفي وفكري. لم تعدّ مؤسّسة لتخريج النّخبة، بل أصبحت ورشة لتدوير الشّهادات، حيث يُمنح اللّقب دون أن يُمنح صاحبه القدرة …
من المؤسّسة إلى الجهاز: كيف أفرغت الجامعة من رسالتها؟
يبدو أنّ الجامعة في كثير من بلدان الجنوب لم تستطع تجاوز جذورها الإدارية الّتي زرعتها السلطة السياسية بعد الإستقلال، حيث تم توظيف التّعليم العالي كأداة للضبط الإجتماعي بدل أن يكون أداة للتّحرر. فبدلاً من أنّ تُبنى الجامعة على روح العقلانية والإستقلال، تمّ إلحاقها بجهاز الدّولة، لتصبح ملحقة إيديولوجية تنتج ما يريده الحاكم لا ما يحتاجه المجتمع.
وقد ساهم هذا في تحويل الجامعة إلى جهاز بيروقراطي يُعيد إنتاج نفس الكفاءات الشّكلية، بنفس المناهج المهترئة، ويُقصي كلّ عقل نقدي أو تجديدي. فأصبح الأستاذ الّذي يُفكر يُهمش، والطّالب الّذي يُبدع يُكسر، والباحث الّذي يسير خارج القطيع يُتهم بالتّمرد.
تحطيم الكفاءات: من الإستثناء إلى القاعدة
في هذا السّياق، لا يُستغرب أن نرى هجرة العقول إلى الخارج تتزايد، وأن يُفضل الطّالب الموهوب العمل كسائق أجرة على البقاء في منظومة لا تعترف بقيمته. يتم تحطيم الكفاءات بوسائل ناعمة أحيانًا (التّهميش، تأخير التّرقية، إقصاء الأبحاث الجريئة) وبوسائل عنيفة أحيانًا أخرى (التّشهير، الطّرد، التّضييق الإداري). والنتيجة أنّ الجامعة تفرز أشباه باحثين يحملون ألقابًا لا تعكس قدرات، وشهادات لا تصنع حلولًا.
الأخطر من كلّ ذلك، أنّ الجامعة أصبحت مكانًا لإعادة إنتاج الرّداءة بطريقة مؤسّسية ، فالطّالب الّذي لا يقرأ ولا يبحث يتخرج، ثمّ يُسجل ماجستير، ثمّ دكتوراه، ثمّ يُصبح أستاذًا يُكرر نفس النّموذج. فتتراكم أجيال من الأكاديميين الّذين لا يؤمنون بالبحث، ولا يملكون مشروعًا فكريًا، وإنّما يشتغلون على “البقاء في المنظومة” لا على تطويرها.
لماذا تفشل الجامعة في تحقيق رسالتها؟
1. غياب الإستقلالية: فالجامعة ليست حرة في رسم توجهها، بل هي تابعة لسياسات فوقية تملي عليها كيف تُكوّن ومن تُكوّن.
2. العقل البيروقراطي: تغليب منطق الإدارة على منطق الفكر، حيث تُقاس جودة الجامعة بعدد التّقارير والملفات لا بمستوى التّفكير النّقدي.
3. أزمة القيم: لم تعد القيم العلمية (الصّدق، النّزاهة، الجهد) هي المعيار، بل حلّت محلها قيم الزّبونية، والإنتماء الحزبي، والطّاعة المؤسّسية.
4. إنفصال الجامعة عن محيطها: فهي لا تتفاعل مع المجتمع، ولا تُنتج معرفة مرتبطة بالواقع، بل تشتغل داخل دائرة مغلقة من التّكرار.
نحو جامعة ذات رسالة إنسانية:
إذا أردنا لجامعتنا أن تستعيد معناها، فعلينا أنّ نعيد لها رسالتها الأصلية: تحرير العقل، لا تلقين المحفوظات. يجب أنّ تكون الجامعة فضاء للنّقاش، والتّفكير، والتّجريب، حتى ولو إصطدم ذلك بالسّلطة أو بالعادات الأكاديمية الجامدة. فبدون عقل نقدي، وبحث حر، وتكوين جاد، لن تكون الجامعة إلا مقبرة للطّاقات.
إنّ إصلاح الجامعة لا يبدأ فقط بتغيير المناهج، بل بتغيير الذّهنية من ذهنية التّحكم إلى ذهنية الرّعاية، من عقلية الأستاذ الإقطاعي إلى عقلية الأستاذ المُلهم، من منظومة الشّهادة إلى منظومة المعرفة.
الجامعة الّتي لا تؤمن بإنسانية الطّالب، ولا تحترم فكر الأستاذ، ولا تصون نزاهة البّحث، ليست جامعة… إنها مجرّد مبنى يحمل إسمًا مفرغًا من معناه.
لأنّ المعرفة لا تُبنى على الطّاعة، بل على الجرأة والتّساؤل.”
بقلم: كريم بوخالفة
سوسيولوجي جزائري





































