سكك لا تؤدّي إليّ
في زمن الرّكض خلف كلّ صوت ينادي، خلف كلّ قطار يزمجر بمحرّكاته عند محطّات العمر، تعلّمت – متأخّراً ربّما – أنّ ليس كلّ قطارٍ ينبغي أن يُلحق به، وليست كلّ سكّةٍ تمتدّ تحت قدميّ قد تأخذني حيث أريد. هناك قطارات تمرّ لتمضي، لا لتقلّني. وهناك سكك خلقتها الحياة لتضلّني، لا لتهديني.
كم من مرّة لبّيت نداء قطارٍ فقط لأنّ الجميع كانوا يصعدون؟ وكم من مرّة صعدت، ثمّ نظرت من النّافذة أتساءل: “إلى أين أنا ذاهب؟”، ولم أجد جواباً. كانت الوجوه من حولي مبتهجة، وكنت أنا وحدي أحمل غربتي في قلبي، كأنّ الرّحلة ليست لي، وكأنّ المقعد تحتي لا يعترف بي.
تعلّمت، وبصعوبة، أنّ الوقوف على الرّصيف ليس هزيمة. أنّني حين أُفلت القطار، لا أخسر، بل أنقذ نفسي من ذهاب لا يشبهني. هناك قطارات مدهشة، برّاقة، لكنّها تنطلق إلى مدن لا تسكنني، إلى حكايات لا تكتبني، إلى نهايات لا تحتويني.
دع القطار يفوتك، حين لا يكون لك فيه متّكأ. حين لا يكون لك فيه شبّاك تطلّ منه على نفسك، أو مقعد يريح قلبك، أو سكّة تعرف في زواياها ملامح أحلامك.
لقد بدأت أرى أنّ التّأخّر أحياناً هو وصول مؤجّل إلى ما هو أجمل، و فوات القطار قد يكون – مرّات كثيرة – طوق نجاة.
أصبحت أُصغي جيّداً لصوت روحي، لا لصوت مكبّرات المحطّة. أتحسّس وجهي في المرآة كلّ صباح وأسأل: “إلى أين تريد أن تذهب اليوم؟” وأصغي بإخلاص. لا أركض خلف السّكة فقط لأنّها ممهّدة، بل أسأل: “هل هذه طريقي؟”
صرت أؤمن أنّ رحلتي فريدة، لا تشبه سواها. وأنّني لست متأخّراً حين أُفلت ركوباً لا يشبهني. فأنا لست مجبراً أن أكون في كلّ قطار، ولا أن أمرّ بكلّ محطّة. المهم أن أصل… إلى ما أريد، لا إلى ما يُفرض عليّ.
فدع القطار يفوتك… ففي ذلك نجاتك أحياناً، وصدقني: ليست كلّ السّكك تتوجّه لرحلتك.
محمد عبدالعزيز سيد أحمد






































