المواطن رقم (لا أحد)
كلُّ مساءٍ أخلعُ تعبَ الوقتِ
وأستلقي بجوارِ شيءٍ يشبه البلادَ
هي لا تقولُ شيئاً، لكنّها تدفنُ أنفاسَها في عنقي
كبقايا حلمٍ لم يستيقظ بعد.
أحاولُ أن أختبرَ صمتي
دون أن أنبسَ بما يخدّشُ عتمةَ الليلِ البريئةَ
عَتمتَهُ البريئةَ والمخيفة.
لا شيء في البيتِ ينتظر، حتّى الهواءُ
يراقبُ من بعيد.
أضعُ يدي على الجدار فأسمعُ نبضاً
لا يشبه دمي
وفي الصّباح …
أمدُّ قلبي لجوازِ السّفر
فتتذكّرني البلادُ كما لو أنّني خطيئة
تحاولُ أن تنساها فلا تنساها،
تمرُّ بي كمن يمرُّ على اسم في المقابر.
كلُّ الدّروبِ تعرف حذائي
والمطاراتُ الّتي حفظتني جثّةً في حقيبة
تحدثُ المسافرين عنّي، وتقول لهم:
لا تحدّقوا عميقاً، إنّه النّسخةُ المنسيّةُ للغياب.
وأنت تتفرّجين
كنافذةٍ شُرّعتْ فقط لتشهدَ انكساري.
يا بلاداً تشبه أمّاً قاسية، تركتني جائعاً
ورائحتها لا تزالُ عالقةً في قلبي
أقولُ: سأعودُ، رغم أنّي لم أغادر
فكأنّ البعدَ عادةٌ والبلادُ هي المسافةُ.
أنا لَستُ منزعجاً منكِ،
لكنّي حين أمرُّ على جراحِكِ، أخفّفُ وقعَ قدمي
كمن يمشي على ذاكرتِهِ وهي تنزفُ.
تعبتُ من رسائلَ لا تصل
من تصنيفِ الكلماتِ كجنائزَ مهذّبة
من الوقوفِ على عتباتِكِ ككلبٍ أضاعَ اسمه
في المطر،
كلّما قلتُ: (بلادددددي)، ارتعشَ حلمٌ مكسورٌ
في رأسي.
أنا ابنُ هذا الحبرِ الممنوع،
وهذه الشّوارعِ الّتي تقرأُ وجهي كجريمةٍ
وتقاضي صوتي كأنّه وثيقةٌ مدنسة.
أيّتها البلادُ …
كم نسخةً من وجعي تكفيكِ
كي تعترفي بي مواطناً مطيعاً؟
كلمّا كتبتُ عنكِ تسلّلَ شرطيُّ إلى قصيدتي
واختنقتْ أوراقي بقنابلَ مسيّلةٍ للأعمار
فترتجفُ كلماتي في مكانها مثلَ بريءٍ يُستجوبُ.
كنتُ أكتبُ على زجاجِ الخوفِ
شيئاً لا يُفهم، لكنّه يُبقيني دافئاً
لا لتقرئيهِ، بل لأقنعَ نفسي أنَّ شيئاً في هذا العالمِ
يستحقُ أن يُقالُ له: (أنتِ).
فكيف أقتنعُ أنَّ هذا التّراب الّذي يشبهكِ
أنّه هو ذاته الّذي خرجَ من نارِ الأساطيرِ
وشيّدَ الزّقوراتِ والجنائنَ المعلقة؟
هل هذهِ يداكِ …
توقعانِ صكوكَ الولاءِ للجلّادينَ
كانوا يفرّونَ منكِ إذا هُمسَ باسمكِ في الرّيح؟
هل هذا فمُكِ …
ينطقُ بالحكمةِ القديمةِ ليبررَ القيدَ
كأنّه أرثٌ مقدسٌ؟
كنتِ نشيداً، فصرتِ نشرة أخبار
كنتِ سيفاً، فصرتِ طابوراً في دائرةِ الوثائقِ
وكنتُ حين أعبر المدنَ تطلّينَ من حكايةٍ وتلوّحينَ
كأنكِ نهايةٌ منسيةٌ في رواية.
أحنُّ إليكِ، لا لأنّكِ حضنٌ دافئٌ
بل لأنّي أصدقُكِ كلّما كذبتِ.
فلماذا تنسين أسماءَنا أيّتُها العاقّةُ
ولا تذكرينَ إلّا أرقامَنا في قوائمِ الرّحيل؟
هل صارَ الحبُّ بيننا هاجساً أمنيّاً
أم ارتياباً نرتديه كلّما اقتربنا؟
كلّما رسمتُ خريطةً للرحيلِ
انفجرتْ بين أصابعي،
فهذه البلادُ مكتوبةٌ بحبرٍ سريّ
لا تُقرأُ قبل أن تحترقَ جلودنا.
نكتبُكِ بدموعِ أمهاتِنا، وتقرئيننا كنشرةٍ جوّيّةٍ
لا تعنيكِ
نعودُ إليك على عكّازِ الحنينِ
فتغلقينَ بابَكِ كأنّنا عدوى.
أنت البلادُ الوحيدةُ الّتي تعتذر بالسّياطِ
من أبنائِها، لا بالكلمات.
إن كنتِ لا تريننا إلا وجوهاً في كاميراتِ المراقبة
أو أصداءً في غرفِ التْحقيق
فاسحبي اسمَكِ من صدورِنا،
واتركيه يتعفّنُ بهدوءٍ في أغاني الصّباح؟
لا نريدُ أن نكرهكِ أيّتها الحبيبة
نريدُ فقط أن ننقذكِ، وأنتِ تقفين تحتَ المقصلةِ
وتظنّينها منبراً أو عرشاً !.
ثامر سعيد/ العراق







































Discussion about this post