“برنس ألبرت 1972″
كنتُ في ممشايَ إلى الجمعيّةِ الخيريَّة بعدَ انتهاء عملي في أحد المؤسّساتِ الحكوميّة ” وكنت محظوظاً بموقعي ذاكَ كما لو أنَّني الأمير ألبرت كما يذرعون”، في الجمعيّةِ تلكَ تعلّمتُ للتوّ أن أكونَ إنساناً أو شبهَ فطرتي، وأيقنتُ اهميّةَ أن تكونَ “إنساناً” في هذه البقعَةِ المتخَمَةِ بشتَّى انواعِ التّشويه النفسيّ المتهدّش..
بترَ شروديَ طفلٌ واقفٌ في منتصفِ الرّصيفِ كجلمودٍ ذي شعرٍ أشعثَ مغبرٍّ مع عينينِ من الرّماد في وجهٍ من الرّماد الذي ذاق أوارَ النارِ وقتاً اطوَل.
_سيّدي، نحنُ نتضوّرُ جوعاً، هل لكَ أن تشتري قطعة الحلوى مني؟
دغدغتني فكرَةُ أنّهُ لا يودُّ سدَّ رَمَقهِ بقطعةِ الحلوى، فهيَ لا تُشبِعُ كما القطعِ النّقدية، اشتريتها بنصفِ راندٍ _وهذا كثيرٌ جدّاً_ ومضيت..
حرَفتُ قدميّ نحوَ الحديقةِ الصّفراء المقفِرة _إلا من القطَطِ_ لأشربَ كوبَ شايٍ، جلس جواريَ رجلٌ بدا تحتَ بصري كأنّهُ شبحٌ من فرطِ هزالتهِ، أعطيتهُ كوبَ الشّايِ وكِسرَة الحلوى وبضعَة رانداتٍ مقابِلَ ابتسامَةٍ حرّكت العضلةَ الفمويّةَ المستديرةَ في وجهِه وخُيِّلَ لي أنَّ هذا لم يحدُث منذُ زمنٍ شبهِ طويل، غمغَمَ بصوتٍ خافتٍ كأزيزِ ذبابةٍ، لربّما كان يشكرني، إن كانَ يفعَل ..
على الإفريزِ المتاخِمِ لبِرَك الوحلِ الضّئيلةِ سمعتُ لسعاتِ عصا الرّوطانِ على فخذَي طفلٍ يتملّصُ ليفلتَ من بين يديّ الخبّاز البدين، أجمَع الأخيرُ _بعدَ تدخُّلي_ أنّ الطّفلَ لصٌّ سارقٌ للتّوست ويستوجِبُ عِقابُه، دفعتُ ثمنها مضاعفاً، عانقني الطّفلُ المُتّسِخُ والتحَفَ بي حتّى أصبَحَت سترتي بلونِ الوحلِ المترامي بينَ ثنايا الرّصيفِ..
وقفتُ على الميزانِ للمرّةِ الثانيةِ هذا اليوم بعدَ أن شرَعَتّ تلجُمُ نحيبَها بشكلٍ مثيرٍ للسُّخط، لتنبِئني أنَّها لم تجمَع ثمَنَ باقَةِ أزهارِ الأجاباتوس بعَد ، أرادَت أن تعطيهَا لحبيبِها بعدَ أن حقَّقَ حُلماً لم تقدِر عليه وتخرَّج من الجامعة..
_70 كليلوغراماً سيّدي..
ناولتُها 10 رانداتٍ ومضيتُ بعدَ اطمئناني أنَّ قلباً آخرَ لن ينفَطِر هذا المساء..
في الجمعيّةِ وزّعتُ كثيراً من الضّحكاتِ حتى تشّنج فكّي، منحتُ ما استَطعتُ من مُليّناتِ الملامحِ لسُحناتٍ مُكفهرَّةٍ حتى خويتُ حدّ الفراغ..
عُدتُ إلى منزلي بجيبٍ شِبهِ فارغٍ وصدرٍ خاوٍ بشكل تامّ، معَ ثيابٍ تشرّبت الطين وعقلٍ تشرَّب الأسى..
في هذهِ البُقعَةِ.. ان تكونَ “إنساناً” أمرٌ صَعبٌ.. صعبٌ للغاية..!
بقلم شذى مصطفى
Discussion about this post