في قصيدة رشيقة بعنوان موعدان متقاطعان للشاعر التونسي الكبير خالد رداوى نتابع معا رحلة – ربما تكون يومية بحكم العادة – واليوم هو الموافق لتاريخ اللحظة الحاضرة . هو بالأحرى موعدا للقاء كان قد تقرر من قبل :
” اليوم أيضا
سأنتظرها في آخر محطة ”
فالزمن كان قد سبقته نية مبيته لتحديده بتاريخ الآن ، والمكان فرض موقعه وايقاعه عند آخر محطة ، وليس عليه هو الرجل الذي نجهل هويته سوي انتظار اللقاء في الزمان والمكان المحدد بصيغته المبتكرة ، وبرسوخه كحدث منظم متكرر ..
“حافظتُ على هذه العادة
أكثر مما حافظت على أبنائي
كنت أؤجل مواعيدي لأستقبل انتظارا ما ”
والحدث اذن يتكرر بحكم العادة . انه سلوك يفرض ايقاعه عبر الزمان والمكان ، وهو سلوك تحكمه قواعد العادة ، ولا يحكمه موضوع او هوية , انه حدث يحافظ علي حضوره في موعده ومكانه الأبدي : يقول انه يحافظ علي اتباع ايقاعاته المتكررة اكثر مما يحافظ علي مواعيده الأخرى . يؤجل كل المواعيد فيما عداه ، ومن ثم فهو يحدد قبسا من هوية ذلك الحدث الذي يقوم بتصنيفه داخل اطار المواعيد . هو ميعاد اذن له قواعده وقوانينه الخاصة ، وهذا الميعاد غلي وجه الخصوص يسبقه انتظار . هكذا يردد النشيد . يترك او يؤجل كافة مواعيده في مقابل انتظار هذا الميعاد ..
” صفيرا يملأ راسي
أجمل ما عندي من لباس يداري قلقي
أتهيأ له كما يتهيأ السّحرة للطلاسم
الأقمار للماء الراكد
الوردة للعطر الناعم ”
عندما يملأ الصفير راسه نصبح علي الفور امام موضوع يتعلق بوجود معاناة . بصف معاناته بالقلق . لديه ميعاد محكوم بروابط انتظار حدوثه المتكرر. يشعر حياله بالقلق : يداري قلقه ويخفيه خلف افضل ما يملكه من ثياب ، وثياب الاخفاء تمنحه الهيئة والثقة في اكمال لقاءه المتكرر . في مقابلة هذا الحادث الفذ ، ولم يكن فعل التهيئة من الأفعال المدعمة للسلوك فقط ، وانما هو يبرز كفعل ينسجم مع الايقاعات المتكررة لهذا الحادث الجلل ، والانسجام قرين للشغف والحاجات الملحة . يصف الحاجة بأنها تحاكي حاجة السحرة الي طلاسم لفرض ايقاعات السحر . كحاجة الوردة الي العطر . كحاجة القمر الي لمعان المياه الراكدة لطباعة خيط اضواءه الفضية ..
” في الجهة المقابلة داخل المحطة
امرأة تنتظر أحد ما
غامضا ومؤجلا ”
حدد النشيد الطرف الآخر من اللقاء بأنه امرأة ما ، وما يزال مكان اللقاء هو المحطة ، وبالتحديد عند الجهة المقابلة للمحطة الأخيرة . لا تتمتع المرأة بصفات او هوية . تنتظر رجلا ما . هو ايضا غير محدد بصفات او هوية . يقول النشيد عنه انه غامض ومؤجل . هو غامض لانه لا يحمل صفات تتفق عليها . ليس في وسعها ان تتفق عليها ، ومؤجل لأنها لم تكد تعثر عليه رغم تكرار المحاولات , ولكنا نلاحظ ان الرجل والمرأة يفرضان مواقعهما في جهتين منفصلين ، واللقاء غامض ومؤجل ..
“تلك المرأة
تغيب عندما اغيب
وكلما حركت لساني
تستعجل حضورها ”
يحدد النشيد زمن حضور الرجل والمرأة وغيابهما في المكان بعينه . فالرجل يحرص علي الحضور بصفة متكررة لأنه يولي امر اللقاء عنايته القصوى ، والمرأة تغيب عن الحضور كلما غاب الرجل , حتي اذا ما غابت استعجل قدومها بالنداء ، وربط حركة القدوم والغياب في قران متصل بإرادة الرجل يضع علامة استفهام كبيرة ، بل ويضعنا في مأزق ..
” كانت في الضفة الأخرى من الحياة
تنظر لي كأنها تريد أن تقول شيئا ما
وانظر إليها كأنني قلت لها كلّ شي ”
يعيد النشيد تعريف المكان . كنا قد رأيناه من قبل محطة اخيرة من محطات اللقاء ، والآن يعيد النشيد صياغة الموقع فيحدد جزء من صفاته وهويته, فموقع المحطة الأخيرة يقع علي الضفة الأخرى من الحياة ، ومن ثم تتحدد ملامح الرحلة اليومية في ذلك السعي الممض المكدود في رحلة الحياة اليومية ، وتتحدد ملامح المرأة في ذلك الهدف البعيد الذي نصبو اليه كلما دعت الحاجة الي بلوغ الأماني ، والتواصل في تلك الحالة بين الرجل والمرأة هو تواصل نسبي ، فالمرأة توحي الي الرجل بشيء لا تود كتمانه . شيء بسيط من بين اشياء عديدة تود قولها ، بينما يبوح الرجل بكل ما يملكه من اسباب واقوال ، والقول لم يكن قولا معلنا بقدر ما كان يحمله من طابع تمثله نوايا القول ، فالحديث لا يخرج من الصدر ، ولكنه يعتمر الفؤاد ويدور في القلب الموجوع ..
” في اليوم المولي موعدان متقاطعان
في اليوم المولي
والذي يليه ”
يقوم النشيد بإرشادنا الي طبيعة الحركة الايقاعية للحدث المتكرر ، فيدلنا علي مدي نظاميته وتناسقه مع ضرورات الحياة المعتادة ، فيذكر لنا قائمة بالرحلات التي يقوم بها عبر الغد وبعد الغد . انهما كما يقول موعدان متقاطعان يجمعهما لقاء واحد في ازمنة مختلفة
Discussion about this post