لا أعرف إسمكِ الأصليّ بصراحةٍ، فأنا لم ألتق بكِ بعدُ، ولكنّنى أعرفك عن بُعد، وفقط باسم (الأمّ كُوراج)، وأتتبّع أخبارك، منذ أكثر من ثلث قرنٍ. وقد كنتُ أكلتُ من خزائن (بسِائسكِ)، في زمن بعيد، كأنّه البارحة والله، مع إبنك منصور (إطار ثّقافي وسينمائي، الآن). وضحكت من نوادرك مع إبنك فتحى (القاضى بمحكمة التّعقيب، حاليّا). وتهيّبتُ جلال حضورك وعزيمتك، مع إبنك البِكر يوسف (الشّاعر، ومازال شاعرًا). فقد حدث يا أمّ كُوراج، أنّنى تقاطعتُ فعلا مع أولادك الثلاثة جميعا (ثالوث آل خديم الله)، كما كُنتُ، ومازلتُ أسمّيهم، وتعرّفتُ إليهم، في فترة مُبكّرة من شبابي. في القيروان وفي تونس. رغم أنّك في صفاقس، حيث أنجبتهم، وحيث كبروا في حضنك… تعرّفتُ إلى إبنك يوسف خديم الله بالقيروان سنة 1985، كان هوّ أستاذا للّغة العربيّة بمعهد المنصورة (معهد عقبة)، وكنت أنا ما زلتُ تلميذا في السّنة الخامسة ثانوي بنفس المعهد الثانوي. وكنت شُعلة من نارٍ. ولا تكاد الأرض تسع طموحي والله يا أمّ كُوراج. وأوّل كأس نبيذ تذوّقته، كان في ذلك الوقتِ وتلك السّنة المُبكّرة من حياتى، كان مع إبنك الأستاذ يوسف خديم الله، الشّاعر الشّاب آنذاك. لذلك فله مكانة خاصّة في قلبي يا أمّ كُوراج….وأمّا إبنك الثالث منصور خديم الله، فقد شاء القدر أن يكون رفيقي الذي يُشاركنى الغرفة لمدّة سنتين، بمبيت نهج التّازاركى بباب الخضراء بالعاصمة، حيث كنت أدرس المسرح وكان هوّ بالمعهد العالى للتّنشيط الثّقافي، وكلانا كان حديث عهد بالعاصمة المُخيفة ، و النّدّاهة التى كانت تبتلع كالغول كلّ الأحلام الطريّة، وكلانا كان يحلم آنذاك بالعدالة وبوطن نفديه ونحميه، من تجهّم ومخالب الإخوان وعبدة الموت والسّواد المُتربّصين في الخفاء آنذاك. ونلوّن سماءه بكلّ ألوان البهجة والحماسة والأمل… الأخضر والأزرق والأصفر والأبيض والأحمر طبعا يا منصور، هكذا كنتُ أذكّره حين يشتدّ بنا اليأس والقنوط. وحينها، كنّا نكفّ عن التّظاهر بالنّوم و نهبّ بحماسة جبّارة لنأكل كلّ ما تبقى من (البسيسة / النّوَوِيّة)، التى كان إبنك منصور يُخفيها في خزانته الحديديّة. وحال شعورنا بالشّبع، حدّ التكوّر في السّرير من جديد، كنّا ننخرط تلقائيّا في موجات من الضّحك من محاولات تخمين مُكوّنات هذه البسيسة الجبّارة، التى تقهر جوع الذّئاب الذى كنّا نعانيه ويحرمنا من النّوم… مرّة ألححتُ على إبنك منصور أن يكشف لنا سرّ البسيسة التى كنتِ تُزوّدينه بها كلّ شهر، يا أمّ كُوراج، فعدّد لنا أكثر من عشرة مواد . بسيسة قمح / زيت زيتون / عسل / لوز /شاميّة / مكسّرات / حِلْبة / جلجلان / توابل خاصّة / أعشاب مُجفّفة ومطحونه / سكّر / تمر /…..وكنّا نضحك بعدها حدّ الفجر… سامحك الله يا أمّ كُوراج، كم كنّا نضحك بسببك بالدّموع وجلالة ربّي…ولم أشبع من أكلة طيّبة، أيّام الفقر والحاجة والجوع الأزرق، المُوحش، كما شبعتُ من بسيسة منصور إبنك الذي كان يلحقنا بها، حين ينتصف الشّهر وتتراكم الدّيون ويكبر الجوع الوحشيّ حتى تجحظ بسببه العيون وتنتفخ الأوجاع ويتورّم الحنين في القلب فيفيض على شكل سوائل بدائيّة مالحة، نسمّيها الدّموع التّلقائيّة الخائنة آنذاك، ونحن نقف بحماسة الشّباب، يسار كلّ تداعيّات و أسباب و أنواع المشاعر الجيّاشة، ما لم تُوظّف لخدمة القضيّة والمُثل الإنسانيّة المُستوردة من روسيا وضواحيها. ولذلك، فأنا مدين لكِ يا أمّ كُوراج العظيمة. ومدين بالطّبع لابنك منصور خديم الله، فضلا على أنّه حافظ أسرارى ورفيقي وصديقي، وهو من أكثر من عرفت نقاء وثقافة موسوعيّة…. وأمّا إبنك الأوسط، فتحى خديم الله. فقد عرفته أيضا في أواخر الثمانينات، عن طريق شقيقه منصور، وكان يزوره في المبيت حيث نسكن ونتقاسم الغرفة، وجمعنا الإنتماء لنفس الخطّ اليساريّ وعشق السينما والفنون. وقد استمرت علاقتنا، حتّى اليوم، أكثر من ثلث قرن يا أمّ كُوراج، وستستمرّ، مع كلّ أولادك الثلاثة، مهما أخطؤوا في حقّي… سأبقى قريبا منهم، ثلاثتهم، وأعدك بأنّنى سأحرص على ذلك يا أمّ آل بيت خديم الله…//// والآن إسمحى لي أن أقوم …وأن أخرج للحديقة البافاريّة القريبة…لأبكيك وحدى، دون أن تنتبه ابنتي ياسمين. أو زوجتى الألمانيّة لدموعي المحتبسة منذ زمن طويل…. إسمحى لي أيّتها الأمّ العظيمة، أن أكمل لكِ هذه السّطور الأخيرة فقط وأنهيها على عجَلٍ، ثمّ أخرج، لأبكيك بحرقة يا أمّ كُوراج، أيّتها الأمّ المناضلة العظيمة….وسأنتهز الفرصة وأبكى في رحيلك أمّى الحاجّة فضيلة العيّادى وكلّ الأمّهات اللّواتى غادرن، فجأة، بعد تأديّة الأمانة، ولبّين نداء السّماء الأرحب والأبقى، حيث تحوّلن إلى نجوم مُضيئة تتابع نُموّنا واقترابنا من العلامة والنّداء…فشكرا يا أمّ كُوراج. ووداعا، يا أمّى…سأدعو أحبّتى اليوم للتّرحّم على روحك الطّاهرة الزّكيّة، يا أمّ (آل خديم الله) التى رحلت عنّا هكذا فجأة. و لا أعرف والله اسمها الحقيقيّ بعد ….
*****
***د.(كمال العيادي الكينغ)***
– من كتابي الجديد: خمسون بُورتريه وبورتريه
Discussion about this post