قراءة في النص الشعري “سراب” للشاعرة والإعلامية الجزائرية كريمة كركاش
بقلم: أ. محمد موسى العويسات- فلسطين
“سراب”.. قصيدة من الشّعر الحرّ للأديبة والإعلامية الجزائرية كريمة كركاش، من بضعة وعشرين سطرًا، ملخّصها إنسان يظهر في حياتك، يعدك ويمنّيك، فتعوّل عليه وتطمح في ودّه وحبّه، وفجأة يفارقك ويختفي، وتبقى أنت تعيش وهمَك وآلامَ أملٍ رسمتَه في نفسك ومخيّلتك. مالت فيها الشاعرة إلى الأسلوب السّرديّ، الذي ينقل للقارئ تجربتها، تجربة الخذلان، والفراق، وتحطّم الأحلام في شيء من المباشرة كقولها: كيف لم يعد للمشاعر قيمة، وقولها: الفراق لا يطاق. وهذه تجربة إنسانيّة كثيرا ما عبّر عنها الأدب بكلّ أصنافه. ورغم المباشرة في التّعبير الشعريّ، والبعد عن الكناية والرّمزيّة، إلا أنّ في القصيدة مواطن تصويريّة جميلة، كقول الشاعرة: (لحظات ذابت فيك ومعك، وقولها: منافذ القلب صُفّدت… وأغوار الرّوح وصّدت). وسلاسة التعبير في هذه المباشرة وعدم التّفنّن البعيد في التّصوير، منحت هذه المقطوعة صدق المشاعر، وأضفت عليها جوّا من البراءة، يشتمّ منه اللوم والعتاب والمرارة. وكان من الجمال أن أجادت الشاعرة الوصل والفصل، ففي مواقع استخدمت حرف العطف الواو وفي مواقع أخرى استغنت عنه، تقول: لحظات ذابت فيك ومعك
اضمحلت غابت ونسيت..
وتقول، دون عطف، وفي رشاقة، كأنّها متعجّلة:
(وللحظات البوح… معنى… أهمية)
وتقول:
(للهجر جرح لن يندمل
أيام… شهور… سنون)
وهذا أضفى جوّا من اللطف والخفّة على الأسماع. ومن اللافت استخدام الشاعرة شبه الجملة الظرفيّة والجار والمجرور بالعطف والعامل واحد، كقولها: ذابت فيك ومعك/ كنت لك بك ومعك. وهذا استخدام إيجاز وتكثيف، وحدّةٍ نابعة من إصرار في بلوغ اللوم أقصاه، فهو عملية استقصاء معنويّ.
وتجانس الشّاعرة بين الألم والأمل، لتكشف صراعا نفسيّا داخليّا، طرفاه ألم بالفراق وأمل باللّقاء أو الموعود. تقول: تمرّ ويبقى الألم… الأمل. وتعبّر الشّاعرة عن ألمها باستخدام حرف التّمنّي، الذي يعني أنّ الجرح ما زال حاضرًا في نفسها، ويستحيل أن ينمحي، تقول:
ليتك لم تكن
ليتك لم تأت
ليتك وليتك وليتني
لم ارتشف
من كأس العشق المرّ..
وتكرار الحرف (ليت) خمس مرات، أربع منها جعلت اسمه كاف الخطاب، ذكرت خبره مرّتين: لم تكن، لم تأتِ، وحذفت الخبر مرتين أخريين، (ليتك ليتك)، وهذا دلالة على أنّ هناك أشياء أخرى كثيرة تتمنّى أنّها لم تكن، وفي المرة الخامسة تلتفت لنفسها التفاتًا جميلا (ليتني)، وتكتفي بأن يكون الخبر: ( لم أرتشف من كأس العشق المرّ) عبارة تفيض بالندم والألم. متى يكون العشق مرّا؟ لا شكّ في أنّ الجواب كامن في العنوان (سراب).
وإذا ما عدنا للعنوان وجدنا الكاتبة قد وفّقت إلى حدّ بعيد في اختياره، فالسّراب يشي بمضون هذه المقطوعة وفكرتها، فكلمة سراب تعني أول ما تعني أنّك في صحراء عطشان تبحث عن ماء، فمن شدّة عطشك وشدّة الحرّ والتهاب الرّمال ترى السّراب ماء فتجري خلفه، وهذه كلمة نكثر منها في مواقف كثيرة في علاقتنا بالبشر، هناك من يعدك، هناك من يصادقك، هناك من يحبّك، ولكن لا ترى أثرا له، تعلّق عليه آمالا لا تتحقّق، فتبقى تعاني حاجتك أو مشاعرك، فتأتيك كلمة (سراب) على جناح السّرعة، بليغة بعيدة الدّلالة. ثمّ تتبع الشاعرة العنوان بكلمتين متضادتين، ربّما يوضّحان كلمة السّراب، ويكشفان أنّ (السراب) ما زال قائما، فتقول: (حاضر غائب). كيف يكون حاضرا وغائبا في اللّحظة نفسها؟ للوهلة الأولى تظنّ أنّ هناك تناقضا، ولكن لا تناقض في حالة السّراب. أو فيما يبعثه السّراب في النّفس من أمل ورجو رغم إدراك حقيقته، فيتعلّق العطشان به، فالنفس البشريّة تجمع بين الشيء وضدّه. وتسترسل الشاعرة في تعبيرها عن الشّعور السّرابيّ، تقول: (كنتَ وكأنّك لم تكن).
وتخلص الشّاعر إلى نتيجة أو قرار أنّ كلّ شيء انتهى، وأنّها لن تتبع السّراب مرّة أخرى. تقول: الودّ لن يطرق… طرقة ثانية. وهذا من المجاز اللطيف فإطلاق الودّ على القلب أجمل من المباشرة في ذكر القلب، وله معنى أبعد، فالقلب لا يطرق إلا طلبًا للودّ. وختاما نحن أمام نصّ شعري يعدّ من السّهل الممتنع، عبّر عن خوالج النّفس بأقلّ التّكاليف وأبلغ العبارات. يغلب عليه جوّ الانكسار والخيبة النّفسيّة.
النص الشعري الموسوم “سراب”
حاضر..
غائب..
كنت وكأنك لم تكن..
كالسراب..
لحظات ذابت فيك ومعك
اضمحلت غابت ونسيت..
كيف لم يعد للمشاعر قيمة..
وللحظات البوح..معنى..أهمية
كنت لك بك ومعك..
لا تتمة ولا ديمومة..
منافذ القلب صُفّدت
وأغوار الروح وصّدت..
للهجر جرح لن يندمل
أيام… شهور… سنون
تمرّ ويبقى الألم… الأمل
كنت كالنّجم الطارق
ليتك لم تكن
ليتك لم تأت
ليتك وليتك وليتني
لم ارتشف
من كأس العشق المرّ..
الفراق لا يطاق
والودّ لن يطرق… طرقة ثانية
كريمة كركاش
Discussion about this post