بقلم الكاتبه … عايدة قزحيّا
ذات يوم كنتُ أنتقل بسيّارتي من مدرسٍة إلى أخرى، وهذا الأمرُ أصبحَ بديهيًّا أنْ يُدَرِّسَ الأستاذ في أكثر من مدرسة وجامعة، وقبل الظّهر وبعد الظّهر، وحتّى في المساء، وذلك بحكم فقر الدّولة وحاجتها إلى خدماتنا شبه المجانيّة، ورواتبنا شبه الخيريّة، لكنّنا، لا بحكم التّغاضي والخنوع، بل بحكم التّهذيب والعضّ على الجوع، نسكت، نصمت، نبتلع المأساة، نزدرد الكلمات، نزفر الآهات، احترامًا للذّات، كيف لا ونحن أرقى الطّبقات.
فإذا أراد أحدهم أنّ يكرم الآخر ويحترمه، يستعير لقبنا ويطلقه عليه:” أهلًا أستاذ” “تفضّل أستاذ” “بأمرك أستاذ” حتّى ليخال الأجنبيّ المتجوّل في الشّوارع والأسواق، وفي كلّ المرافق التّجاريّة والصّناعيّة والميكانيكيّة وشركات الكهرباء والماء والمعامل التّصنيعيّة، والأدوات الصّحيّة أنّ وزارة التّربية قيّمة على كلّ هذه الأعمال، لأنّه لا يسمع سوى لقب “أستاذ”.
لا بأس بذلك، وما يضيرنا في الأمر؟
فلا هَمَّ إن نالوا اللقب ما داموا ينالون نصف رواتبنا كلّ شهر..
فلهؤلاء العمّال أوجّه ألف تحيّة من القلب، ولأياديهم العاملة.
فهم لا ذنب لهم إنّ أخذوا لقاء عملهم الكثير
فأجرُنا هو القليل.
عذرًا لقد أسهبت في الكلام، وخرجت عن الهدف المُرام..
لم أكن مسرعة في سيري ذاك اليوم، فأنا من عادتي أنّ أقودَ سيّارتي بإعتدال، لا لعدم ثقتي بحسن قيادتي، ولكن لعدم ثقتي بسيّارتي المتواطئة مع رويتبي، فهي أيضًا تبتزّني كلّ شهر، بحيث أصرف على صيانتها أكثر ممّا أصرف على أحد أفراد عائلتي، فربّما أتغاضى عن طلبٍ من متطلّباته، أمّا سيّارتي فلا تصبر، كما أنّ أعطالها تفضحني بين الجيران حيث تصدر أصواتًا يستيقظ لها كلّ السّكّان ، وكلّ الأحياء الّتي أعبر فيها حتّى وصولي إلى مدرستي أو جامعتي.
وأنا في طريقي لفت نظري، بل أدهشني رؤية ورقة “سندويش” تتطاير من نافذة سيارة تسير أمامي، وقد حرص راميها ألّا يثنيها، وأعقبها ب
” تنكة پيپسي” أحدثت ضجّة تفوق حجمها، ممّا دفعني إلى تسريع قيادتي لتعقّب تلك السّيّارة بهدف لفت نظر الأب أو الأمّ إلى ما إقترفه ولدهما، غير أنّي فوجئت، بل صُدمتُ عندما رأيت إمرأة قد فاق تراكم اللّحم والشّحم عليها تراكم السّنين في عمرها، وقد إمتشقت بيدها “سندويش” تلتهمه ولم أرَ أحدًا بجانبها، فما إنّ إقتربتُ منها، حتّى حدجتني بنظرة إنعقد لساني داخل حَلقي من الهلع، إذ سألتني بصوتِ حنجرة رجل ونبرة قاضي محكمة، وقد قـطبت حاجبيها حتّى اتّحدا : ما بكِ فإبتسمتُ لها إبتسامة النّعجة للجزّار، فتلعثمتُ ورحتُ أتأتئ وأفأفئ وأوأوِئ إلى أنّ خرجَت منّي كلمة مبهمة:
ع ع عفوًا..
عفوًا سيّدتي ظننتكِ صديقتي، لتشابه سيارتيكما، فتابعت سيرها، ولم تُعرني إهتمَامًا..
أمّا أنا فقد انتحيتُ جانب الطّريق أحاولُ أنّ ألتقط أنفاسي المتهدّجة بعد ذاك الموقف المشؤوم، فتابعت سيري، وحمدت اللّه وشكرته ووعدته ألّا أقوم بعد اليوم بأيّ محاولة إصلاحيّة تعرّض سلامتي للخطر.
بقلم الكاتبه … عايدة قزحيّا
من “مجموعتي القصصيّة”






































