#قصة_قصيرة
” صيام على حافة الاغتراب ( 3) ”
المنفى المزدوج
نورالدين طاهري
تحت الأضواء الخافتة التي تتأرجح بين يقظة الليل وسبات المدينة، كان يوسف يسير على غير هدى في شوارع بروكسل، هامد الجسد، مثقل الفكر، يحاول أن يستلّ من ذاكرته رائحة رمضان الأول، حين كان طفلا يركض بين الأزقة المغربية، يلتقط تمرة من صحن والدته قبل أذان المغرب، ويضحك. كل شيء تغيّر الآن، حتى الضحك صار رفاهية لا يقدر عليها.
جاء إلى هنا، متسللا بين الأمواج، متشبثا بحلم هشّ عن حياة أفضل، لكنه ما إن وطأت قدماه الأرض حتى أيقن أنه انتقل من منفى إلى آخر، من غربة محسوسة إلى غربة وجودية. فالوطن الذي لفظه، لم يكن أحنّ من هذه البلاد التي احتضنته بقانونها الصارم وطرقاتها الباردة. باتَ مجهول الهوية، لا وطن يسأل عنه، ولا مدينة تحتفي به. يعيش في الظل، متواريا عن العيون، ينام حيث ينطفئ التعب، بين زوايا محطات المترو أو تحت جسر بعيد عن صخب المدينة.
كان جسده نحيلا، كأنه صورة متآكلة لحلمٍ خسر معاركه، عيناه غائرتان تسكنهما حيرة تتأرجح بين الذكرى والندم. ومع كل هذا، كان يصوم. لم يكن الصيام عنده طقسا دينيا فحسب، بل نوعا من المقاومة، من التشبث بآخر ما تبقى له من ذاته القديمة.
حين يشتد عليه الجوع، يعبر أمام المخابز التي تنبعث منها روائح الخبز الطازج، يبتسم بمرارة، يمضي وهو يستعيد طعم خبز أمه، ذلك الخبز الذي كان يتشرب رائحة البيت ويدها الحانية. يسأل نفسه: أيهما أقسى؟ الجوع هنا، أم الجوع هناك؟ أيهما أكثر مضاضة، أن تكون مغتربا في وطنك أم مغتربا خارجه؟
في الليل، حين تتثاقل المدينة تحت وطأة السكون، يرفع رأسه إلى السماء، يرى هلال رمضان معلقا كابتسامة شاحبة، فيهمس لنفسه: “حتى القمر يبدو غريبا هنا…”
كانت ليالي بروكسل باردة، لكنها لم تكن أكثر قسوة من البرودة التي سكنت قلب يوسف. كان كل شيء فيه ينكمش، جسده المنهك، روحه المثقلة، وأحلامه التي ذابت مع أول ليلة نام فيها على أرصفة المدينة. كان يحاول أن يقنع نفسه بأنه لم يخطئ حين قرر الرحيل، لكنه في قرارة نفسه كان يعلم أن الرحيل لم يكن خيارا، بل قدرا قاسيا ساقه نحو التيه.
في ليالي رمضان، كان يمر بجانب المساجد المكتظة بالمصلين، يسمع التراويح تُتلى بخشوع، يقف للحظة عند باب المسجد، يتردد… أيجرؤ على الدخول؟ كيف يصلي بين هؤلاء الذين تبدو على وجوههم علامات الطمأنينة، وهو الذي لا يملك شيئا سوى جسد منهك وروح معلقة بين السماء والأرض؟ كان يشعر أنه ينتمي إليهم، لكنه في الوقت نفسه غريب عنهم. لم يكن الغريب بينهم، بل الغريب في ذاته، في تلك الهوة التي تفصله عن كل شيء، عن الماضي الذي لا يعود، وعن الحاضر الذي لا يرحم، وعن المستقبل الذي يظل مجهولا مثل طريق بلا ملامح.
علّمه رمضان الصبر والاحتمال، فلم يكن مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل رياضة روحية للبقاء، وتمسّكا بما تبقّى من ذاته التي تشظّت في المنافي. في المغرب، كان الإفطار لحظة دفء عائلي، مائدة تمتد بحبّ، ووجوه مألوفة، وأحاديث تمنحه شعور الانتماء لنسيج متماسك. أما هنا، فكان يجلس وحيدا في زاوية محطة القطارات، يفتح كيسا بلاستيكيا يحتوي على ما تيسر من خبز وتمر رخيص، يحتسي قهوته الباردة، ويهمس لنفسه: “كلنا نصوم… لكن ليس كلنا نفطر.”
في داخله كانت أسئلة لا تنتهي: هل الوطن هو الأرض، أم العائلة، أم الشعور بالأمان؟ لماذا يشعر أنه مغترب حيث وُلد، كما يشعر بالغربة حيث لجأ؟ هل كان الوطن أكثر قسوة مما ظن، أم أن الغربة في بروكسل لم تكن أقل مرارة؟ كان يسير في الشوارع كأنه ظلّ بلا صاحب، يتأمل الناس العابرين، يتساءل كيف يعيشون بطمأنينة، وكيف لم تتشقق أرواحهم مثلما تشققت روحه؟
وفي آخر الليل، حين تهدأ المدينة وتخفت الأضواء، يتمدد فوق قطعة كرتونية في زاوية مهجورة، يعانق معطفه الرثّ، يتأمل السماء الرمادية، ويتمتم بصوت بالكاد يُسمع: “اللهم إني مغترب… فإلى أين المصير؟”
لم يكن يوسف وحده في غربته، فقد كانت له رفقة، لكنها لم تكن الرفقة التي كان يتمناها. كانوا مثله، ضائعين في شوارع بروكسل، لكنهم اختاروا طريقا مختلفا. في النهار، كانوا ينتشرون في الأزقة، أمام محطات المترو، وفي ساحات المدينة الفسيحة، أياديهم ممدودة، وأعينهم تتوسل للمارّة. بعضهم كان يستعطف بعبارات رقيقة، وبعضهم يتقمص دور العاجز، وبعضهم يبتدع القصص علّه يستدر دمعة شفقة تُترجم إلى بضعة يوروهات.
كان يوسف يراقبهم من بعيد، لم يحكم عليهم، ولم يعترض طريقهم، لكنه لم يستطع أن يكون واحدا منهم. كان جوعه ينهش أحشاءه، وكان جسده النحيل يزداد ضعفا يوما بعد يوم، لكنه كان يأبى أن يمدّ يده. كان يرى في التسوّل انكسارا أكبر من الجوع، وكان الجوع عنده ألطف من أن يتحول إلى مستعط تتلاعب به نظرات الناس.
في بعض الليالي، حين يجتمعون في زوايا الأرصفة، يتقاسمون ما جمعوه، كانوا يعرضون عليه نصيبه، لكنه كان يرفض بصمت، يكتفي بابتسامة باهتة، ويراقب كيف يلتهمون الطعام بشراهة الجوعى. أحدهم، واسمه سمير، كان يقول له:
ــ “يوسف، الجوع كافر، نحن لا نسرق، فقط نطلب ما يبقي أرواحنا في أجسادنا.”
فيرد يوسف، بصوت هادئ لكنه ثابت:
ــ “وأنا أفضّل أن يقتلني الجوع، على أن يقتلني العار.”
كانوا يهزون رؤوسهم غير مقتنعين، يضحكون أحيانا من عناده، لكنهم لم يضغطوا عليه. كانوا يعرفون أن يوسف ليس من طينتهم، وأنه لن يغيّر رأيه.
وفي ليالي رمضان، كان التحدي أكبر. كانوا يتسولون النهار كله، ويعودون عند الإفطار ببقايا الطعام التي يجود بها بعض المطاعم أو المارة. أمّا يوسف، فكان يفطر على ما تيسر من فتات خبز وتمر يابس يجده أحيانا في أكياس المهملات النظيفة. لم يكن الأمر سهلا، لكنه كان يشعر أن كرامته أثمن من شبع البطن.
في آخر الليل، حين يخلد الجميع إلى النوم في الزوايا المعتمة، كان يوسف يحدّق في النجوم، يتساءل إن كان الله يسمع صمته، وإن كانت هذه الحياة اختبارا لصبره، وإن كان الجوع الذي ينهشه سيقوده إلى خلاص ما، أم إلى موت بطيء في زاوية منسية في مدينة لم تعرفه ولم تعترف به يوما.
كان يوسف مستلقيا على ظهره فوق قطعة كرتون مهترئة، عظامه تئن تحت وطأة الإسفلت البارد. كانت معدته تصدر أصوات احتجاج خافتة، لكنه اعتاد هذا الصمت الصاخب في داخله. رفع بصره إلى السماء، كانت النجوم تلمع بعيدا، كأنها أضواء مدن أخرى، مدن لم تطرده ولم تنبذه، مدن كان يحلم أن يصلها لكنه علق هنا، بين أرض لا تحتضنه وسماء لا تجيبه.
“إلى متى؟ إلى متى سأظل هكذا؟ غريبا في بلدي، وغريبا في هذه البلاد؟ هل أنا إنسان ناقص لأني لا أملك ورقة شرعية؟ ما الفرق بيني وبين من يمرون بجانبي دون أن يلتفتوا؟ هل الجوع امتحان أم عقاب؟ وهل الكرامة تستحق كل هذا العناء؟ لو كنت أضعف قليلا، لو مددت يدي، لو بعت جزءا من عنادي، هل كنت سأكون أسعد؟ أم أني كنت سأخسر نفسي؟”
زفر ببطء، كأنه يلفظ تلك الأفكار مع أنفاسه. لم يكن لديه إجابات، لكنه كان يعلم أن النوم سيأتي قريبا، وأن الغد سيحمل معه جوعا جديدا، ونفس الأسئلة التي لا يملك لها إلا صمته جوابا.
Discussion about this post