شرود
بقلم الكاتبة/ دعاء محمود
في قطار السادسة صباحاً من كل يوم تذهب ( نور ) إلى عملها الذي يبعد كثيراً عن منزلها بالقرية.
تعمل موظفة بأحد البنوك في مدينة المنيا، تقطن في إحدي القرى في بيت ريفي جميل، هادئ، هي ووالدتها فقط.
ليست كفتيات القرى؛ هندامها، شكلها، طريقة عيشها.
شرود واضح على تفاصيل وجهها طوال طريقها ذهاباً، وإياباً؛ تتمتع پالنظر خارجاً، لا تسمع من نداءات الباعة الجائلين الذين اعتادت أصواتهم شيئاً.
لا تتعرف على وجوه العابرين، شاردة، ناظرة إلى شرفة القطار في ذات المقعد الذي تختاره كل يوم، وتنظر من ذات الشرفة، لترى نفس المناظر التي تراها كل يوم، ليست معنا، وإنما في عالم آخر لا نعلم عنه شيئاً.
وبصفتي صحفي يجذبني أصحاب القصص الشائكة، وأشم رائحة الإثارة من بعيد، كنا نحضر لمؤتمر سيقام بعد شهر في مدينة المنيا مما أتاح لي أن أراها كل يوم، وأحاول نبش ما تدفنه داخلها، ولكنها أصرت على عدم الحوار، أصرت على الشرود، والسكون.
عقدت العزم على معرفة الأمر بطريقتي الصحفية.
تابعتها حتى عرفت منزلها، وعملها، وبدأت جمع خيوط قصتها، وألملم بعثرة أخبارها؛ لأعرف ما هال عقلي: كفيلم سينمائي حزين.
كانت فتاة جميلة مرحة تحب الحياة، تعيش في إحدى شوارع القاهرة القديمة، أحبت زميلاً لها بالعمل؛ كان يبدو عليه العز والوجاهه، أحبت كامل تفاصيله، سارا معاً في درب الزواج.
أعدا عدتهما لينعما في إطار شرعي؛ عامان من الحب، وآخران من الخطبة، وثالثاً بعد كتب الكتاب.
جهزا عشهما كما ترائى لهما.
كان دوماً يطلب منها أن تسلمه نفسها ـ فهم حقاً أزواج ـ دام رفضها حتى ليلة الزفاف ـ خشية أن يتركها إذا سلمت له نفسها قبل الأوان ـ
فوجئت به في منزل الزوجية كانت ذاهبة لوضع بعض اللمسات الأخيرة؛ حاول معها مجدداً أبت بشدة، هربت منه بعد مقاومة كبيرة.
في الصباح التالي هاتفته لتخبره بموعد خروجها من دار التجميل ( البيوتي سنتر ) ولكن هاتفه مغلق. ساعات تهاتفه ولا يرد، دب القلق في أوصالها، روت على أمها ما كان ـ طمأنتها ـ وذهبت معها إلى ( البيوتي سنتر ).
أخبرت خالتها لتذهب إليه في منزله وتطمئنهم.
وجدته نائماً ووالدته تبكي، تخبرها بأنه لا يريد الزواج، حاول الجميع إقناعه والوقت يجري دون أدنى أمل….
تركها يوم عرسها تواجه العالم وحدها، لم يستطع أحد إخبارها.
تزينت الفتاة كأجمل ما يكون، ارتدت فستانها، وهي لا تعرف الحرب المنتظرة خارجاً.
أطلت عليهم؛ وجوه الحاضرين كأنما غطتها أجنحة الظلام مكفهرة.
تسأل: ماذا جرى!!! وما من مجيب.
هرعت إليه دون تفكير، ظناً منها أنه أصيب بمكروه.
وجدته هادئاً، بارداً، والدته تبكي…
أخبرها أنه ما عاد له بها حاجة، لا يريدها.
ارتمت تقبل قدميه، عرضت عليه نفسها، وافقت على ما كان يريده بالأمس منها؛ أمام أهلها وأهله على ألا يتركها، أخبرها: أنه لا يريدها، وقد زهد الزواج منها، وفقد رغبته بها.
أخذها أهلها عنوة من منزله وهي تصرخ لا تتركني …….
عامان في المشفي غير قادرة على النطق، فقدت الكلام في صدمتها، حاول الأطباء، والأهل مساعدتها؛ فشل الجميع.
أخذتها والدتها بعيداً ـ كما أوصى الأطباء ـ إلى بيت أبيها في المنيا، قدمت والدتها طلب نقل من الفرع الذي كانت تعمل به إلي فرع قريب من إقامتها الجديدة.
تحولت إلى عمل إداري لا يحتاج إلى الحديث الكثير.
ذهاب، وإياب دون أدنى تقدم أو إنجاز، رفض للحياة، عيش على أطلال الصدمات، تمثل أنها حية، وهي ضمن الوفيات.
تستيقظ كل يوم باكراً لتذهب إلى حديقة المنزل الواسعة؛ تصلي في الهواء الطلق، تطعم دجاجاتها، تذهب لعملها شاردة، تجلس في مكانها شاردة، صافنة، تمضي على بعض الوريقات، تعود لمنزلها تأكل ما أعدت والدتها، لتجلس باقي يومها بالحديقة مع الدجاجات.
فقدت الكلام، والإحساس، شقتها بالقاهرة كما هي لم يدخلها بشر منذ ذلك اليوم، بيت أبيها موصد منذ أعوام.
تبدلت الحياة، ما عادت بها حياة.
الكاتبة/ دعاء محمود محمد
دعاءقلب
Discussion about this post