أحمد محمود حسن يكتب:
قصة قصيرة
وأنا أنظر إلى ساعة الحائط المعلّقة على مسمار هزيل تذكّرتُ كيف اهتزّ منزلي وأخذ يتأرجح ليلة زلزال السّادس من شباط ، وكنت حينها أنظر إلى اللوحات الفنيّة على جدران صالون المنزل وهي تهتز وتميل مع ميلان أرضيّة البيت الرّخامية من هول الزّلزال ، لكنّ الّذي سقط على الأرض عن الحائط كان تلك السّاعة الجدارية ذات البلّور الكريستال الأبيض ، رأيتها تتناثر أمامي أشلاءً وسط حالة من الرّعب الّتي سيطرت عليَّ في تلك السّاعة المتأخّرة من الليل .
.
أنا لستُ زوربا ،
لكنها أصرَّت أن تخاطبني بهذا الإسم حين جاءني اتصالها بعد صلاة العشاءْ :
– أريدكَ لأمرِ ضروري ،
. قلتُ لكِ إنني لستُ زوربا كما أنكِ لستِ الأرملة الوحيدة في هذه البناية ،
– أرجوكَ أن تصعد إليَّ حالاً ، فالأمر لايحتمل التأجيل ،
. ولكنْ قد يراني أحد الجيران أدخل شقتكِ في مثل هذا الوقت من الليل فتحصل فضيحة ،
قاطعَتني :
– لاتهتَم ، أنا بانتظارك ،
ثم أقفلَتِ الخط ، وأنا أردد باستغراب :
زوربا ؟!
أرملَةْ ؟!
لكنْ ، أين السانتوري ؟
متى تَرَدَّدَ زوربا في تلبية نداء أرملةٍ شابة ؟
أليس هو القائل ( عارٌ على الرجل أن ينام وامرأة تنام لوحدها ) ؟
تابعتُ الحديث مع نفسي وقد استمديتُ بعض الشجاعة من ذلك الرجل اليوناني العتيق :
لماذا لاأكون زوربا ولو لهذه الليلة فقط ؟
ماذا ينقصني ؟
لم أقرع الباب عليها ، فقد كانت تنتظرني أمام باب شقتها وقد فتحته مُوارِباً ، وفور وصولي تناوَلَتني من قلب الظلمة عند المدخل لأجد نفسي فجأةً في غرفة الجلوس على تلك الأريكة العتيقة .
لم يكن هناك لوحات فنية على جدران الغرفة ، كانت هناك ساعة جدارية من البلور الهش مُعلَّقة على مسمارٍ هزيل ،
وقد سألتها حينها :
. أين صغيريكِ ؟
أليس لديك ولد وبنت صغيرين ؟
– نعم لدي ولكني ارسلتهما مع عمهما إلى الضيعة ظهر اليوم ليقضيا يومين مع جدهما وجدتهما ،
ثم تابَعَت :
– قل لي يازوربا لماذا لم تتزوج حتى الآن ؟
. أراكِ مُصِرَّةً على تسميتي بزوربا !
سيُجيبكِ زوربا إذاً :
. زوربا لن يتزوج أبداً ،
– لكنه يحب بكل تأكيد أليس كذلك يازوربا ؟
. نعم لقد أحببتُ مرة واحدة في حياتي ،
– متى كان ذلك ؟
. عندما رأيتُ قفا زوجة الطَّحَّانْ لأول مرة ،
– ولماذا زوجة الطّحّان بالذات ؟
. ليس زوجة الطّحّان ،
بل قَفَا زوجة الطّحّان ،
من خلال ابتسامة دافئة قالت :
– أراكَ تُمثِّل دور زوربا بإتقان ، فكيف ذلك ؟
قلت بثقة :
. لأني أراكِ أرملة بجدارة ،
– وهل تحب الأرامل بحق كما يُشاع عنك ؟
. بل أحب فعل الخير مع جميع النساء وجبر خواطرهن ،
– تبدو قنَّاصاً ماهراً ،
ابتسمتُ ابتسامة خافتة لم تلحظها لأن الشمعة كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة :
. لماذا إذاً تختارينَ دور الطريدة طالما أنكِ تعرفين مهارتي ؟
– ليس لهذا بالضبط دعوتك !
ضحكتُ وأنا أسألها بشبه استغراب :
. لماذا إذاً ؟!!
ابتسَمَت :
– أيقِظ فتيل الشمعة التي أمامك أولاً ثم نتحدث بالعمل ،
. أنا لاأجيد إلا أعمال المناجم والعزف على السانتوري ،
– هذا ماأريدهُ منك بالضبط ،
. تريدين مني أن أعمل في العزف ؟
– بل أريدكَ للعمل في المنجم ،
أخذتُ كلامها على محمل الجد فقلت لها بحماس :
. ولكن أين ذلك المنجم الذي سأعمل به؟
هبَّت حينها واقفة وهي تبتسم قائلةً :
– سأُعِدُّ لك القهوة وبعدها سوف أُريك منجم الذهب الحقيقي ،
تمعنْتُ في طول قامتها وجسدها المتناسق وهي تميس كعود خيزران طري ،
وقلت بصوت أقرب إلى الهمس :
. لايحلو الرقص من غير السانتوري ،
– لماذا لم تحضره معكَ إذاً ؟
. لأني لستُ زوربا الحقيقي ،
اطلقَت حينها ضحكة هستيرية لاإرادية ، في حين كنت أفكر في نفسي ،
لماذا لاأكون زوربا الحقيقي ؟ ولكن !
كيف أكون ولم أعمل في منجم طيلة حياتي !
لا لا .. العمل في المناجم لايناسبني ،
لكنها قطعت عليّ شريط أفكاري :
– إنه منجم ذهب ، ذهب حقيقي يازوربا وليس منجم حديد ،
تابعتُ تداعيات أفكاري وأنا أراقب تثنيها في مشيتها :
. نعم نعم إنه منجم ذهب حقيقي .
وفي حين كانت تدخل المطبخ لإعداد القهوة كانت نظرتي تتسمَّر على بلور الساعة الجدارية الهش وعلى ذلك المسمار الهزيل الذي يحملها بصعوبة وكأني كنت أنتظر سقوطها وتحطمها ، بل رأيت ذلك المسمار ينخلع من مكانه ، وأن البناية بدأت تتأرجح بقوة بفعل زلزال مفاجئ وانه عليّ الخروج بسرعة إلى العراء وتَركْ زوربا الحقيقي يمارس طقوسه المقدسة معها والجدران تتصدع وتنهار فوق رأسه . بقلم احمد محمود حسن
.
Discussion about this post